الجديد برس : رأي
سامي عطا
كتب أستاذنا الدكتور أبوبكر السقاف، أطال الله عمره، ومتعه بالصحة، في مقال بعنوان (في ذكرى الاستقلال الذي ضاع غير مرة)، نشره في صحيفة (النداء) في 30 نوفمبر 2005م: (في حياتنا السياسية الأسماء لا تنطبق على المسميات، الثورة ليست ثورة، والجمهورية ليست جمهورية، والوحدة ليست وحدة. لا تتطابق الأشياء والكلمات، إنها في حال قطيعة تكاد تكون دائمة. ولأننا لم نقم ببناء أية مؤسسة سياسية راسخة منذ حركة 26/9/1962 والثورة الوطنية ضداً على الاحتلال البريطاني…).
وأمام حالة الجنوب السوريالية اليوم نستميح أستاذنا بإضافة الاستقلال إلى مجموعة كلمات تفضل بذكرها، فلم يعد الاستقلال استقلالاً مبنى ومعنى في ظل وكلاء (احتلال البدلاء نيابةً عن احتلال الأصلاء)، أي لجأ الاحتلال القديم إلى حيل وأساليب تخفٍّ جديدة تذكرنا بطاقية الإخفاء، ولجأ إلى تغطية عوراته، واتخذ من وكلائه أوراق أشجار كما يعمل إنسان الأدغال، ولقد سعى منذ طرده في 30 نوفمبر 1967، بواسطة ثورة تحرر وطني اقتلعته بعد مرور 129 عاماً من احتلاله، إلى العودة مجدداً، وجاء هذه المرة متخفياً بواسطة وكلاء إقليميين وأعوان محليين.
لقد مارس نظام 7/7 ظلم ذوي القربى الأشد مرارةً خلال حكمه بعد حرب 1994م، ولم يكتفِ بإسقاط الجنوب في قبضته وإزاحة شركائه، بل تعداه إلى تكريس مناخ الانقسام الوجداني في نفوس الناس (شمال منتصر وجنوب مهزوم)، واستخدم عدداً من الوسائل، وظن أنها تحافظ على ديمومته، لعل أخطرها على وحدة البلد والناس تزييف وعيهم، وقاد تخريباً ثقافياً وتحولاً في وعيهم من خلال دعم التعليم الوهابي وتأسيس معاهد سلفية، وكما هو معروف أن استقرار الناس في الهزيمة واليأس يدفعهم إلى تبني وسائل قلة الحيلة. كما كرس نظام 7/7 استقرار ضحاياه في الغضب الدائم الذي يقود صاحبه إلى الرغبة في الثأر والانتقام راكم (بنك الثأر الجنوبي)، لأن الغضب غريزة مأمونة في تغييب العقل، ومن خلال الغضب والرغبة في الثأر يمكن تحريك الضحية ويسهل قيادته. لقد وضع المفكر الفرنسي بيتر سلوترجيك دوراً محورياً للغضب في حركة التاريخ، وعده وسيلة من وسائل الوصول إلى السلطة، حيث يرى أن الغضب كشعور غرائزي، تحوّل شيئاً فشيئاً، إلى ما يسميه البنك العالمي للثأر. بمعنى أنه من خلال الغضب، يتم استخدام مشاعر التمرد، عند المضطهدين، كعملة جارية، من أجل الوصول إلى السلطة(1).
ووجد تحالف العدوان بيئة مناسبة لتسويق خطاب تضليل إعلامي يستغل حالة الغضب عند ضحايا جرى تزييف وعيهم، وعبر أيديولوجيا الوهم تمكن وكلاء الاستعمار من إعادة إحياء وتسويق مشاريعه السياسية القديمة، وباعها للضحايا ديناً، عازفاً على مظلوميتهم التي أسس لها وكلاءهم المحليين نظام 7/7، وبذلك واصل استغلالهم وتوظيفهم في الصراع لمصلحته، وتحت تأثير هذا التضليل الأيديولوجي انقلبت صورة واقع الضحايا، ودفع الجلاد بهم ليس إلى تخوم الوعي الزائف حسب التعريف الماركسي المتواتر للأيديولوجيا، بل قادهم وعلى الرغم من معرفتهم تماماً عدم صواب ما هم فاعلون، ومع ذلك فإنهم يفعلونه، أي مع إدراكهم أن فعلهم بالضد مع مصالحهم، ومع ذلك يفعلونه. وتمكن الجلاد من أن يجر الضحية لأن يغدو جلاداً أو يعمل لحسابه، فــــي الوقــــت الذي يدرك الضحية أن فعله لا يتفق مع مصالحه. وبذلك تمكن الجلاد من ضحاياه وساقهم إلى حتفهم بواسطة وهم أيديولوجي جرى تسويقه للمزيفين وعيهم سلفاً، وبذلك صاروا يعملون عكس مصالحهم.
وحالة سلوك كهذا يعزوه المفكر سلافوي جيجك(2) إلى الوهم الأيديولوجي الذي لا يتم على المستوى الفكري أو المعرفي بقدر ما يتم على مستوى الفعل، حيث أمام سحر المال يتعرضون للاستغلال، يتبادل الضحية مع جلاديه ومستغليه المال مقابل تقديم فعل يدرك أنه يتعارض مع مصالحه، وبات الكثير منهم يدرك تعرضه للاستغلال والاستغفال، ومع ذلك يستمر في الفعل، والسؤال لماذا يستمرون في ممارسة هذا الفعل رغم وضوح الرؤية؟ نظرية هذا المفكر سلافوي جيجك تجيب على هذا السلوك، حيث يعزوه إلى أن الناس فيه (تميميون في الممارسة وليس في النظرية)، أي لديهم وهم (تميمة) [حرز بالتعبير الشعبي] علقها تحالف العدوان في أذهان ضحاياه الغاضبين، تقول (التميمة) إن الانتصار في معركة الساحل الغربي وبلوغ الحديدة مفتاح بلوغ دولة الجنوب المنشودة، بينما يعلم التميميون أنهم مستقرون في وهم، ومع ذلك ينفذون ما يطلب منهم(3).
لقد أضحى وهم عودة دولة ما قبل 22 مايو تميمة أو حدوة الحصان المعلقة التي لا يؤمن بها من علقها، ولكنها تفعل فعلها حين تكون مشروطة بإنجاز فعل آخر، وهو الانتصار في الساحل الغربي وبلوغ الحديدة.
إن الاحتفـــــــــــــــال بالاستقلال في ظـــــــــل احتـــــلال بالوكالــــة كوميديا سوداء، فإذا لم يك الاستقلال يعني استقلال إرادة وسلوك عن تبعية اقتصادية، ويعني في ما يعنيه تحقيق استقلال وطني ناجز، فأي استقلال هذا المحتفى به من قبل إرادات مرتهنة وعميلة! الاستقلال وارتهان الإرادات حدان لا يجتمعان منطقياً، الاستقلال خروج من تحت وصاية إرادة أخرى وقدرة الإرادة المستقلة على التصرف بإرادتها الخالصة.. ولذلك نحن أمام حالة تزييف مفاهيم وإفراغها من مضامينها واستمرار للتزييف الذي شهدته حياتنا السياسية منذ حركة 26 سبتمبر كما طرح الدكتور أبوبكر السقاف في المقتطف أعلاه..!
هوامش:
(1) كتاب المفكر الفرنسي بيتر سلوتر جيك (الغضب والزمن) صدر عام 2009م، وأثار ضجة عالمية.
(2) سلافوي جيجك من مواليد 21 مارس 1949، هو فيلسوف وناقد ثقافي سلوفيني، قدم مساهمات في النظرية السياسية، ونظرية التحليل النفسي والسينما النظرية، وهو أحد كبار الباحثين في معهد علم الاجتماع جامعة ليوبليانا. يلقي محاضرات في كثير من الأحيان في مدرسة Logos في سلوفينيا، وهو أستاذ في كلية الدراسات العليا الأوروبية. (يوصف أنه أخطر فيلسوف سياسي في الغرب).
عمل أستاذاً زائراً في جامعة شيكاغو، وجامعة كولومبيا، وجامعة برنستون، وجامعة نيويورك، وجامعة مينيسوتا، وجامعة كاليفورنيا، وجامعة ميشيغان وغيرها من الجامعات. ويشغل حالياً منصب المدير الدولي لمعهد بيركبك للعلوم الإنسانية في بيركبك بجامعة لندن، ورئيس جمعية التحليل النفسي النظرية، في ليوبليانا.
يكتب حول العديد من المواضيع مثل: الرأسمالية، والأيديولوجية، والأصولية، والعنصرية، والتسامح ، والتعددية الثقافية، وحقوق الإنسان ، والبيئة، والعولمة، وحرب العراق، والثورة، والطوباوية، والشمولية، وما بعد الحداثة، وثقافة البوب والأوبرا والسينما، واللاهوت السياسي، والدين.
(3) من أجل تفسير الانقلاب التميمي يروي جيجك قصة عن العالم الدنماركي نيلز بوهر. يزوره صديق في منزله الريفي فيجد حدوة حصان فوق مدخل البيت، فيسأل الصديق بوهر ما إذا كان يؤمن بمثل تلك الخرافات. يجيبه بوهر: (طبعاً إني لست أؤمن بها. لست أبله)، فيأتيه السؤال: (ولكن لماذا تحتفظ بالحدوة؟). فيجيب: (إني أحتفظ بها لأنها تفعل فعلها مع أني لا أؤمن بها).