الجديد برس : رأي
عبدالمجيد التركي
البحث عن الذات ليس بالأمر السهل، كما يتصور البعض..
يبدأ البحث عن الذات من إحساسك بأنك في المكان الخطأ.. ترى كل شيء غريباً عنك، وترى نفسك غريباً عن كل شيء.. حتى في محيطك.. وحتى بين أفراد أسرتك ينتابك هذا الشعور بالغربة، وأحياناً يصل هذا الشعور إلى حد أن ترى نفسك غريباً عن نفسك، كأن تقف أمام المرآة وتتأمل ملامحك، فتشعر أن هذا الذي في المرآة ليس وجهك، وأنك لست أنت، رغم كل البطائق التي تملأ جيوبك.. وقد يتطور الأمر إلى حد أن تبصق على ذلك الوجه الذي في المرآة، ونادراً ما تأتي لحظات رضا عن النفس، وتبادل فيها وجهك بابتسامة عريضة، أو تجمع أصابعك على شفتيك وترسل قبلة إلى المرآة.
في طفولتي كنت أشعر أنني مختلف عن أترابي ومن هم في مثل سني.. لم أكن أتمنى أن أكون مثل أحد، ولم أقم بتقليد أحد.. أشعر بمعنى الغربة، ومعنى أن تريد أن تفرغ كل ما في قلبك، فلا تجد من يستوعب ما تريد قوله، فكيف إذا أخبرتهم أنك لا تنتمي لهذا العالم الضيق، وهذه القرية الصغيرة التي لا تتسع لمداك، لأن مرمى بصرك يصطدم بأطرافها القريبة.
كثيرون هم الذين يبحثون في الآخرين عن ذواتهم المفقودة.. فالبعض قد تعجبنا طريقة كلامه، أو ضحكته، أو مقدرته على التحدث بلباقة، فنتمنى لو أنا نمتلك قدراته ونكون مثله، فنتأثر بشيء عند كل شخص، فتتكون شخصياتنا مهزوزة وغير متماسكة، لقلة وعينا ومعرفتنا بذواتنا.. وهذا الأمر يصرفنا عن البحث عن ذواتنا إلى تقليد الآخرين فقط.
معرفة الذات هي المعرفة الكبرى، فمن عرف ذاته استغنى عمّن سواه، وزهد في كل مميزات الآخرين.
ليس هناك شيء يخلو من الصعوبات.. فحين تكون نظرتك بعيدة وتفكيرك مختلفاً، ينظرون إليك بعيون مليئة بالريبة، ابتداء من الأسرة والمجتمع من حولك، ويتهمونك بالتمرد إن قمت بطرح أسئلة أو فكرت تفكيراً مختلفاً.. لذلك يواجهونك بالقمع والإسكات، وسيقولون إنك تغرد خارج السرب، وإنك تخالف السائد والمألوف.. لكن الإنسان المختلف لن يرضى أن يكون كالبقية..
نعم.. أنا أغرد خارج السرب ليكون صوتي مسموعاً.
الأمر يكمن في فرادة النظرة للأشياء، ورؤيتها من منظور مختلف ومن زاوية لا يراها العابرون، وهنا تكمن المعرفة.. وهذه المرتبة لا يصل إليها إلا من عرف ذاته.. تلك المعرفة التي عبَّر عنها الإمام علي بن أبي طالب حين قال: (لو كُشف لي الغيب ما ازددت يقيناً).
وهي نفس المعرفة التي أفصح عنها الإمام حين وقف بأصحابه أمام شلال ماء، وقال لهم: (لو شئت لأخرجت لكم من هذا الماء ناراً).. هل كان يتحدث عن الطاقة في ذلك الوقت؟!
يرونه ماء ويراه ناراً.. لذلك لم يسأله أحد كيف سيفعل ذلك، لأن رؤيتهم تتقاصر في مداه، وسطحية تفكيرهم لا تتجاوز رؤية الماء كماء للشرب والاغتسال فقط، دون معرفة عناصره والإحاطة بكيفية تكوينه.. ولم يندهشوا أيضاً حين سمعوا ابن أبي طالب يناجي ربه قائلاً: (يا من يرى الماء في الماء).
إنها المعرفة الحقة بالذات.. المعرفة التي تجعلك ترى كل شيء بعيون جديدة، ترى الهوامش من حولك كأنها المتن.. وحين تصل إلى هذه المرتبة فقد وصلت إلى قلب الحقيقة، وستعي حينها معنى الاكتمال والكمال البشري.