الجديد برس : رأي
محمد عبدالرحمن عريف
كاتب وباحث في تاريخ العلاقات الدولية والسياسة الخارجية
الواقع أن المؤشّرات والممارسات تؤكّد أن الوفود لا تلتزم بعهودها وليس لديها استعداد للمضيّ في تنفيذ بنود الاتفاق، وأن موافقتها عليه لم تكن سوى موقف اضطراري لتخفيف الضغط الذي كان عليها وأوشك أن يدحرها من الحديدة تحت ضربات القوة العسكرية، وأنها تستثمر هذا الاتفاق لالتقاط أنفاسها وإعادة ترتيب أوراقها وصفوفها، وسط نكسات متعدّدة الجهات الداخلية والخارجية.
نعم استبشر البعض خيراً بمشاورات ستوكهولم لإنهاء الاعتداء؛ ليس لمصداقية ظهرت في أفق الممارسات، ولكن لجدّية لمسها الجميع من جانب الأمم المتحدة والمجتمع الدولي في اقتناعهم بضرورة نزع أسلحة الحرب تنفيذاً لقرار مجلس الأمن رقم (2216)؛ إلا أن المؤشّرات التي تصل من الحديدة لا تُبشّر بخير، فالحلفاء وهادي لهما تفسيرات خاصة لنصوص الاتفاقات لا يقرّها العقل والمنطق. فهذه “بعثة المراقبة الأكبر عدداً ستُسهم في مساندة العملية السياسية الهشّة”. هكذا جاءت دعوة “أنطونيو غوتيرش” الأمين العام للأمم المتحدة، في مطالبته مجلس الأمن الموافقة على نشر نحو (75 مراقباً) في الحديدة لمدة ستة أشهر. مع عقده جلسة للاستماع لتقرير المبعوث الأممي بشأن اتفاق ستوكهولم وجهوده لعدم فشل هدنة الحديدة.
البداية جاءت مع الجنرال الهولندي “باتريك كومارت”، رئيس لجنة إعادة الانتشار الذي لم يكمل 15 يوماً في الحديدة، حتى خرج بيان عن الأمم المتحدة يعبّر عن (خيبة أمل) يشعر بها لعدم وصول الأطراف إلى خطوات لبناء الثقة. بدأ بعدم تمكّنها من فتح ممر إنساني في الحديدة في الموعد المتّفق عليه وأن الممر لن يفتتح على الرغم من تنسيق المسألة في أول اجتماع للجنة مراقبة الهدنة والتي تعمل تحت إشراف المنظمة العالمية وتضمّ ممثّلين عن طرفي النزاع.
وسط ذلك تواصل قوات هادي والتحالف خرق وقف إطلاق النار. فرئيس اللجنة الثورية العليا محمّد علي الحوثي سبق أن كشف عن رفض ممثلي التحالف السعودي في لجنة التنسيق المشتركة في الحديدة مقترحاً قدّمته لجنة صنعاء، بحضور رئيس فريق الخبراء الأمميين، ويقضي هذا المقترح بإعادة انتشار القوات العسكرية للطرفين إلى مسافة خمسين كيلومتراً على مرحلتين، من دون أن تقدّم اللجنة الرافضة مقترحاً بديلاً. كذلك فالناطق باسم القوات المسلحة اليمنية العميد يحيى سريع يعلن أن التحالف السعودي نفّذ “1924 خرقاً” منذ توقيع اتفاق الحديدة.
نعم لم تلتزم الأطراف بأية مفردة من مفردات اتفاق ستوكهولم بل ذهبت إلى اختلاق حيل وأساليب للتنصّل من التزاماتها أمام المجتمع الدولي. فلم يكن هناك احترام لأية جهود لإحلال السلام وتجنيب المدينة المعارك والدمار، وكان الجميع أمام الخيار العسكري، والتعامل بلغة القوّة. رغم أن الاتفاقيات تقضي بخروج المقاتلين من الحديدة وإعادة انتشار القوات خارجها، لكن قوات التحالف دائماً ما تروّج بأنها سلّمت الميناء وتحاول إقناع الرأي العام أن الاتفاق يقضي فقط بخروجها من الميناء وليس من المدينة كلها ، كما يقضي بتسليم الحديدة والميناء للسلطات المحلية والتنفيذية التي كانت قائمة. فالتحالف لم يدرك أنه أمام اتفاق يقضي بنزع الألغام وتسليم خرائطها للمختّصين والفِرَق الهندسية، ولم ينفّذ منه أيّ شيء.
الواقع أن المؤشّرات والممارسات تؤكّد أن الوفود لا تلتزم بعهودها وليس لديها استعداد للمضيّ في تنفيذ بنود الاتفاق، وأن موافقتها عليه لم تكن سوى موقف اضطراري لتخفيف الضغط الذي كان عليها وأوشك أن يدحرها من الحديدة تحت ضربات القوة العسكرية، وأنها تستثمر هذا الاتفاق لالتقاط أنفاسها وإعادة ترتيب أوراقها وصفوفها، وسط نكسات متعدّدة الجهات الداخلية والخارجية.
لقد عُقدت لجنة عسكرية قبل وداع عام 2018، ضمّت طرفيّ النزاع اليمني، وتزعّمت الأمم المتحدة، اجتماعها الأول في الحديدة، لتبدأ رسمياً مهمتها المُتمثّلة في منع الهدنة من الانهيار وفي الإشراف على الانسحاب المتّفق عليه من المدينة، وجاءت لجنة مكلّفة بمراقبة وقف إطلاق النار وتطبيق بندين آخرين في الاتفاق ينصّان على انسحاب المُتمرّدين من موانئ المحافظة، ثم انسحاب الأطراف المُتقاتلة. هنا جاء إغراق التفاصيل من قوات هادي والتحالف، كدلالة واضحة على أنهم يدفعون بالأمم المتحدة والمجتمع الدولي إلى الغرق في تفاصيل جزئية وجانبية لا تؤدّي إلى إنهاء الحرب، وذلك بهدف تشتيت جهودهم لكسب الوقت.
يبقى أن الأيام القليلة المقبلة ستوضح حقيقة نوايا التحالف إزاء القبول بنتائج مشاورات ستوكهولم من عدمه، وعلى ضوئها سيقرّر الشعب اليمني كيف سيستعيد دولته من قبضهم. وليعلم الجميع أن السلام سيعّم ربوع اليمن فقط في حال استعادة الدولة وتفكيك كل الجماعات المسلحةً، فلا قبول بطائفية أو مذهبية مسلحة داخل الدولة؛ والمواطنة المتساوية تحت مظلّة الدستور والقانون هي المرتكز الحقيقي الذي سيقود الشعب اليمني إلى السلام الدائم، ذلك وفق اتفاقية ستوكهولم التي استخدمت كلمة “القانون اليمني”، ولابدّ من أن تكون مرجعيته هي الحكومة اليمنية.
ستبقى الحديدة تُمثل نقطة الارتكاز لاختيار نوعية الأداة التي ستُستعاد بها الدولة اليمنية؛ فهي كذلك محطة لمعرفة وجهة المجتمع الدولي والأمم المتحدة في تعاملهم مع الملف اليمني.. عليه يجب أن تُصاغ كل السياسات بما يلائم ويصبّ في صالح الشعب ويخفّف من مُعاناته. عليه لابدّ من وجود رقابة لإبراز الانتهاكات الصارِخة، لأن هذا سيعني أن الاتفاقات ليس لها معنى، لأنها لم تطبّق في عروس البحر الأحمر، التي أوشكت حرب التحالف أن تخرجها من طبيعتها.
الحديدة.. حضرت بقوّة في ستوكهولم، وكان كل الحذَر من أن الفشل في ملف سيتحوّل إلى فشلٍ في إحراز تفاهمات في ملفاتٍ أخرى.. وأنه يجب أن يخرج الفرقاء باتفاق على الملفات التي تعكس حال وجود ثقة، تُساهم في حل الخلافات التي تحيط بالملفات الأخرى. لكن وقعَ المحظور، وبدأ الانهيار للهدنة في الحديدة. فمَن أفسدها.. عليه أن يُصلحها، فاتفاق التهدئة اتّضح أنه كان مرحلة لإعادة ترتيب صفوف، وكذلك مسرحية هزلية.. هنا تبقى الإشكالية الكبرى، ماذا ستكون ردود فعل مجلس الأمن والأمم المتحدة ومسؤوليها الموجودين في اليمن؟. فهل سيكون هناك وضوح لوضع التحالف أمام استحقاقات واضحة؟.
نقلا عن موقع قناة الميادين