الجديد برس : صحافة
تحقيق: محمد أبو الكرم
هكذا جاء الاحتلال هذه المرة مرتدياً ثوب المساعدات الإنسانية وإعادة ما يسمى بالشرعية، وهو لا يختلف كثيراً عن سابقيه سوى أنه زاد في بشاعته عندما أقر تهجير أبناء مديرتي ميون وذوباب الساحليتين في جريمة أقل ما توصف به أنها مأساوية. في إحدى مديريات محافظة تعز وعلى مقربة من مضيق باب المندب، قذف الاحتلال الإماراتي وشركاؤه صنارة صيدهم هذه المرة طامعين في صيد ثمين متمثل بالممر المائي الأهم في المنطقة. يستعرض هذا التحقيق مجموعة من الشهادات والاستدلالات التي تصور وترصد عن قرب ممارسات الاحتلال الإماراتي في منطقة ذوباب وجزيرة ميون.
سماسـرة ترهيب محليين
سيف مقبل (52 عاماً)، أحد أبناء منطقة ذوباب الساحلية (غرب تعز)، كهل يحمل على أحد كتفيه أحد أحفاده. ينظر إليك ببشرته السمراء التي تتخللها ابتسامة تخفي في ثناياها حزناً دفيناً. يقول سيف: “لم يتم طردنا بشكل مباشر، لقد أشاعوا بيننا الخوف من أن المنطقة ستتعرض لقصف عسكري وأن قواتهم ستحول المنطقة إلى منطقة عسكرية، وأن من الأفضل لنا مغادرة المنطقة، إشاعات كثيرة وبروايات متعددة، تارة بأن القوات الأمريكية ستبدأ في قصف المدينة من بارجات بحرية، وأخرى بتحويل المنطقة إلى معسكر تدريبي في مواجهة الحوثيين…”. ويضيف: “نحن عائلات تخاف غالباً من صوت الرياح، الكثير منا ترك الأرض وقرر الرحيل إلى محافظتي الحديدة وتعز، ما قيل لي لاحقاً أن هناك سماسرة من أبناء المنطقة كانت مهمتهم نشر الإشاعات وتخويف أبناء قريتي، وهو ما أصابني بالحزن الشديد، كيف لأبناء قريتي أن يعملوا على تهجيري وأن يصبحوا أدوات لقتلنا وتهجيرنا؟!”، يقولها بلهجته وهو يكاد يبكي.
طرد عشـرات الأسـر
“حولوا المدينة إلى قاعدة عسكرية للإماراتيين”، هكذا بدأت انتصار سعيد (32 عاماً)، حديثها مع صحيفة “لا” حول تهجيرها وعائلتها من منطقة ذو باب الساحلية. وقالت: “الحرب هنا دمرت منازلنا منذ عامين وتم طردنا بحجة أن قوات الحوثيين مازالت تسيطر على المنطقة، بالرغم من أن القرية كانت تعيش في حالة من الاستقرار قبل دخولهم. نحاول بشكل مستمر العودة إلى منازلنا، ويتم رفض دخولنا إلى أغلب القرى الواقعة في منطقة كهبوب القريبة من مركز مديرية موزع، وقرى أخرى قريبة من الشريط الساحلي”.
سيف وانتصار ليس إلا أنموذجين من عشرات الأسر المنتمية لجزيرة ميون ومنطقة ذوباب الساحلية التي هجرتهم منها قوات الاحتلال الإماراتي مطلع العام 2017 عقب ما يُسمى “عملية الرمح الذهبي” التي استهدفت السواحل الغربية وباب المندب والمناطق المطلة عليها، في خرق واضح للفقرة (12) من القرار الأممي (1674) للعام 2006 الخاص بحماية المدنيين في الصراعات المسلحة، والذي ينص على حظر التهجير القسري للمدنيين في حالات الصراع المسلح في ظل ظروف تشكل انتهاكاً لالتزامات الأطراف بموجب القانون الإنساني الدولي. هذا التحقيق يتتبع حجم التهجير الذي انتهجه الاحتلال الإماراتي بحق أبناء منطقة ميون وذوباب، ساعياً (أي الاحتلال الإماراتي) إلى استنساخ قواعد عسكرية جديدة مطلة على مضيق باب المندب.
تجريف واستغلال البيئة البحرية
جزيرة ميون إحدى عزل مديرية ذوباب، أكبر مديريات محافظة تعز من حيث المساحة وأصغرها من حيث تعداد السكان، حيث بلغ عدد سكانها وفقاً لتعداد العام 2004 ثمانية عشر ألف نسمة، وتشرف المديرية على مضيق باب المندب من الناحية الشمالية. وجزيرة ميون القابعة في المياه الإقليمية اليمنية تبعد قرابة 20 كيلومتراً عن جيبوتي، مما يجعلها نقطة التقاء شديدة الحساسية على مضيق باب المندب. وتتمتع الجزيرة، التي تبلغ مساحتها 13 كيلومتراً مربع بموقع يربط البحر العربي وخليج عدن بالبحر الأحمر وتقسم باب المندب إلى قسمين، وتتمتع الجزيرة، إلى جانب أهميتها الجغرافية، ببيئة مائية وشعب مرجانية نادرة جداً عملت الإمارات، منذ اللحظة الأولى للسيطرة عليها، على تجريفها واستغلالها لمصلحتها.
قاعدة عسكرية للاحتلال الإماراتي
الباحث يوسف الغولي تحدث عن أن الإمارات وضعت الجزيرة إلى جانب مدينتها الأم ذوباب ضمن قائمتها التي سعت من خلال حربها على اليمن للسيطرة عليها. وقال إن التواجد والانتشار العسكري الإماراتي في البحر الأحمر يحمل دلالات عميقة في السيطرة على المضيق المائي الأهم في المنطقة، وأن الإمارات بدأت فعلياً في إنشاء قاعدة عسكرية أثبتتها عدة أدلة وتوثيقات لأبناء المنطقة.
وأضاف: “جعلت الإمارات من أبناء منطقة ذوباب وميون نازحين في أماكن بعيدة، في محاولة منها لتحويل الجزيرة إلى قاعدة عسكرية خالية من السكان، وانتهجت الإمارات في عملية التهجير هذه عدة ممارسات مثل منع الصيد على أبناء المنطقة، إضافة إلى الكثافة العسكرية غير المبررة في المنطقة وأسلوب الشائعات الذي انتهجته منذ البداية لبث الخوف بين أبناء مديرية ذوباب”.
سجون سرية في ميون
محمد أحمد (37 عاماً)، والاسم هنا مستعار، تحدث عن خروج العشرات من الأسر من أبناء جزيرة ميون وقرى أخرى مجاورة لها في مظاهرات تطالب بعودة أبناء هذه المناطق إلى منازلهم. وتحدث محمد أحمد بأن الاحتلال الإماراتي ومنذ الوهلة الأولى لدخوله الجزيرة عمل على التضييق على أبنائها من خلال منع الصيد والتجريف الذي طال الثروة السمكية ونشر إشاعات مفادها أن الجزيرة مازالت مستهدفة من قبل الحوثيين والبارجات البحرية الأمريكية، والعديد من الأساليب التي روجت لها أدوات الاحتلال في المديرية.
محمد أحمد، الموظف في قيادة المنطقة العسكرية الرابعة، كشف للصحيفة أن هناك أربعة سجون سرية في جزيرة ميون حجم أحدها يصل إلى 17 متراً مربعاً. وأضاف أن قوات الاحتلال الإماراتي طوقت الكثير من المناطق في مديرية ذوباب، لكن تركيزها الأساسي ينصب على جزيرة ميون، ولأجل ذلك اتجهت صوب شراء ولاءات بعض الشخصيات الاعتبارية في المنطقة، وعملت على زعزعة وتخويف المواطنين، وشراء الكثير من الأراضي وتطويقها والتي تحولت لاحقاً إلى مدرج للمطار وسجون سرية ومواقف للسيارات والتموين العسكري والغذائي.
تهجير أكثر من 10 آلاف مواطن
أكثر من 10 آلاف مواطن تم تهجيرهم من جزيرة ميون ومديرية ذوباب لغرض إنشاء قاعدة عسكرية، ظهرت صورها الأولى وفق شهادات استمعت إليها صحيفة “لا” في مدرج الطائرات الذي بدأت قوات إماراتية في إنشائه، إضافة إلى المناطق المغلقة التي تم إنشاؤها في أماكن غير مأهولة بالسكان وحجم الحشد العسكري للجزيرة.
أكثر من 5 شهادات متقاربة من أبناء جزيرة ميون أكدت لصحيفة “لا” أن قيادات عسكرية إماراتية زارت المنطقة، بالإضافة إلى وجود سجون سرية تحوي عدداً من المعتقلين من أبناء الجزيرة وأيضاً من أبناء المحافظات الأخرى الذين تم ترحيلهم للجزيرة.
يقول سيف مقبل إن بعض الناشطين والرافضين لفكرة الاحتلال الإماراتي والذين ناهضوا الخروج من الجزيرة تم اعتقالهم بتهم متعددة. وأضاف: “لا نعلم عنهم شيئاً حتى الآن. هناك أكثر من عشرة من الشباب الذين أعرفهم شخصياً اختفوا تماماً. الكثير تحدثوا إلينا بأنهم محتجزون في سجون تابعة للاحتلال الإماراتي داخل الجزيرة”.
اتهامات دولية للاحتلال الإماراتي
موقع “جاينيز” البريطاني المتخصص في الشؤون العسكرية أثبت بصور جوية أن الإمارات قاربت على الانتهاء من بناء قاعدتها العسكرية في جزيرة ميون. وأظهرت صور الأقمار الصناعية جانباً من مدرج الطائرات الذي يتطرف الجزيرة، إلى جانب بعض المنشآت المغلقة والتي يعتقد أنها منشآت تستخدم كمقر لإدارة العمليات والتخزين.
الصحفية أحلام بازرعة تحدثت عن أن القوات الإماراتية تسعى في جزيرة ميون إلى نسخ قواعدها العسكرية الموجودة في ميناء عصب الأريتيري وبربرة الصومالي، وتهدف من وراء ذلك إلى السيطرة التامة على مضيق باب المندب. وقالت إن الإمارات إضافة إنشائها القاعدة العسكرية وعملية التهجير، عملت على منع الصيادين من الصيد، إلى جانب عمليات التجريف العشوائية للبيئة البحرية والمرجانية النادرة، وهو ما يتسبب بهجرة ثروة متكاملة من المخلوقات البحرية إلى ضفاف أخرى من البحر الأحمر.
هذا وكانت الحملة الدولية لمقاطعة الإمارات (ICBU) قد اتهمت قوات الاحتلال الإماراتية في اليمن بسرقة ونهب الثروة السمكية النادرة في المنطقة ونقلها إلى الإمارات بواسطة سفن صيد ووسائل نقل عسكرية.
وأضافت بازرعة: “التواجد الإماراتي والسعودي في اليمن جاء لتحقيق مصالح خاصة متمثلة في السيطرة على الجزر والموانئ اليمنية، وما يحصل الآن في سقطرى وميون وذوباب والمخا كفيل بتأكيد ذلك، ومن يقول عكس فقد وهن عقله”.
“نون بوست”: هدف الإمارات ليس إعادة الشرعية
موقع “نون بوست” تحدث في تقرير موسع له نشر في مارس الماضي عن المخاطر السياسية الخارجية الناتجة عن التحركات الإماراتية في المنطقة. وقال: “مع بدء عاصفة الحزم وضعت الإمارات عينها على السواحل اليمنية والممر المائي المهم في البحر الأحمر (في إشارة إلى مضيق باب المندب)، وفي تجاهل من السياسة الخارجية الخشنة التي تقودها في القارتين الآسيوية والأفريقية، أخذت تنشئ قواعد عسكرية في المدن والجزر اليمنية، وتنشر بوارجها الحربية على امتداد السواحل اليمنية”.
الموقع تحدث أيضاً عن توزع القواعد الإماراتية في جزيرة ميون ومديريات ذوباب والمخا والخوخة وتأثيره على السكان والصيادين. وأضاف الموقع أن قوات الاحتلال الإماراتي متواجدة إلى جانب سفن بحرية وفرقاطات وزوارق حربية، وأن الهدف الذي تواجدت من أجله ليس كما تدعي إعادة ما يسمى بالشرعية، وإنما لأهداف استراتيجية ترتبط بالسيطرة على الموانئ اليمنية في منطقة البحر الأحمر ذات الأهمية الجيواستراتيجية.
قتل اليمنيين وسـرقة ثرواتهم
الدكتور حزام الرميمة (باحث سياسي) تحدث عن أن الإمارات عملت على تطويق مضيق باب المندب لضمان السيطرة عليه، فالمضيق يشكل أهمية اقتصادية عظمى، خصوصاً في ظل صراع أطراف من العدوان عليه، مثل السعودية وبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية، إضافة إلى أطراف أخرى كالصين وتركيا ودول إقليمية ذات مصالح مرتبطة. وقال إن السعودية أعلنت في وقت سابق تحويل طرق الملاحة البحرية في البحر الأحمر، وتزامن ذلك مع بدء قوات الاحتلال الإماراتي تنفيذ مخطط تحويل الجزيرة إلى قاعدة عسكرية.
وقال الرميمة إن الدلائل كلها أثبتت أن الاحتلال السعودي والإماراتي جاء لقتل اليمنيين وسرقة ثرواتهم، وأن مرتزقة هادي، الذين حاولوا مراراً تقديم مصالحهم وأهوائهم على الأرض والإنسان، ومن يسعون إلى تجميل صورة هذا الاحتلال، سيصابون بلعنة الشعب.
واستمعت الصحيفة إلى شهادات أكثر من ثماني أسر تنتمي لمديرية ذوباب وجزيرة ميون، جميعها أكدت تهجيرها قسراً ـوعبر أساليب متعددةـ من منازلها ومنعها من العودة إليها. بعض هذه الشهادات أكدت أن قوات الاحتلال الإماراتي استكملت إنشاء بعض المرافق الخاصة بمدرج للطائرات إضافة إلى مرافق أخرى تستخدم للإدارة والتخزين. وتحدث البعض عن وجود سجون سرية قريبة من مركز المطار المنشأ حديثاً، إضافة إلى التظاهرات والصور الجوية التي أكدت كل ما سبق. كل هذه الدلالات تثبت تواطؤ حكومة هادي مع الاحتلال الإماراتي في السيطرة على مجموعة من الجزر والموانئ اليمنية بهدف إحكام سيطرته على خطوط التجارة والملاحة الدولية. في اتصالات هاتفية أجرتها الصحيفة مع قيادات في محافظة تعز التابعة لقوى العدوان، في محاولة لإعطاء حق الرد على هذه الدلائل والحصول على توضيحات بشأنها، تم استقبال الطلب في المكالمة الأولى، ولم يتم الرد بعد ذلك.
نقلا عن صحيفة لا