الجديد برس : رأي
لماذا أصبحت الانقِلابات العسكريّة منزوعة “الدّسم” والحسم هذه الأيّام؟ وأين اختَفى “البيان الأوّل” الذي كان “يهُز الدّنيا” ويُؤرّخ لبداية حُكم الجِنرالات اللامحدود؟ وكيف تراجَعت توصيفات مِثل “ثورة الإنقاذ” من المشهد؟ وهل بات الحِراك الشعبيّ هو عُنوان التّغيير والصّلابة الذي تخشاه الجُيوش الجرّارة؟
عبدالباري عطوان
تغيّر الزّمن، وتعدّدت الانقلابات العسكريّة، وعادت الرّتب والنّياشين تتصدّر الشّاشات التلفزيونيّة، ولكنّها انقلابات مُختلفة هذه الأيّام، وبيانها الأوّل مُختلف أيضًا، لأنّه بات “منزوع الدّسم”، وقادتها عازفون عن الحُكم مُكرَهين، ولو ظاهريًّا، ويرتعدون خوفًا من الشّعوب، ويتوسّلون رضاها، ويُؤكّدون طِوال الوقت أنّهم مُجرّد “مرحلة انتقاليّة” مؤقّتة لن تطول، ويُقسِمون بأنّها ستنتهي بتسليم الحُكم للشّعب، وللدّولة المدنيّة، سُبحان مُغيّر الأحوال.
إذا أخذنا السودان كمِثال، نجِد أنّ زعيم الانقلاب العسكريّ الفريق ركن عبد الفتاح البرهان، يرضخ لمطالب وإملاءات السيد محمد ناجي، أحد قادة تجمّع المهنيين السودانيين الذي تزعّم الاحتجاجات طِوال الأشهر الأربع الماضية، وأبرزها، حل المجلس العسكري الانتقالي واستبداله بآخر مدني يضُم مُمثّلين للجيش، وإقالة كِبار المسؤولين في السّلطة القضائيّة.
أمّا في الجزائر فإنّ الجنرال أحمد قايد صالح، رئيس هيئة أركان الجيش، فكان مِثل “الحمل الوديع” أمام قادة الحِراك، يُنفّذ مطالبهم الواحد تِلو الآخر دون تلكؤ، بما في ذلك عزل الرئيس، وفرض الإقامة الجبريّة على كُل أفراد العِصابة التي كانت تُحيط به، بما في ذلك رجال الأعمال الذين عاثُوا في الأرض فسادًا.
لم تنزل دبّابة واحدة إلى الشوارع إلا ما ندر، وشاهدنا قوّات أمن تنحاز إلى الشعب، وتلتقط الصّور “السيلفي” مع المُتظاهرين، وشباب ثائر لا يقتحم المحلات ويسرق وينهب رغم جوعه وغضبه، بل يُكنّس الشوارع ويُعيدها إلى أبهى صورها.. ما الذي يحدث، وما الذي تغيّر؟ وهل يُفهِم هذا الانقلاب النّاعم من بقي في عُروش الحُكم؟
***
لم نسمع عسكر السودان يستخدمون تعبير “ثورة” لوصف انقلابهم على غِرار ما فعله أسلافهم في “ثورة الإنقاذ” التي قادها الرئيس البشير طوال ثلاثين عامًا، ولم تنقذ أحدًا، بما في ذلك صاحبها، بل أكلت أبناءها ومُنظّريها، والشّيء الوحيد الذي نجحت فيه هو تكريس انفِصال الجنوب وتشريعه، على أمل إنقاذ الشّمال، وإطالة بقائها في الحُكم فخسرت الاثنين.
عندما تغرق الجيوش وقادتها في الفساد، وتتحوّل إلى شركات مقاولات، وتتغوّل في الاستبداد، وزعماؤها في احتقار الدساتير، والارتهان للاستعمار ومخططاته، والتخلّي عنن القضايا الوطنيّة، وتوجيه فوّهات بنادقهم نحو صُدور الشّعوب، فمن الطبيعي أن تكون الغلبة لحراك الشارع، وشبابه وشاباته، لأنّ تحقيق مطالبه العادلة هي الطريق الأقصر نحو الرخاء والأمن والاستقرار، وليس الدّبابات، وإلا فهدم المعبد على رؤوس الجميع، فعُقدة الخوف من العسكر زالت أو كادت، إلى الأبد.
الشارع أخذ مكان الجيوش، وتقدّم عليها، وبات هو صاحب “البيان الأوّل” الحقيقي، لأنّ مُعظم هذه الجيوش لم تخض حروبًا إلا وهُزمت فيها، ولهذا جرى استبدالها بالتّنظيمات العسكريّة المسلحة مثل “حزب الله” في لبنان، و”حماس″ في فِلسطين، و”الحشد الشعبي” في العِراق، و”الحرس الثوري” في إيران، و”أنصار الله” في اليمن، والسبحة “كرّت”، والمخفي أعظم.
جُيوش تعتمد في تسليحها وتدريبها على المعونات الأمريكيّة لا خير فيها، لأنّ قرارها ليس مُستقلًّا، ولن يكون وسيظل مُرتهنًا للمُموّل والمُسلِّح، أيّ امريكا، التي تضع أجنداتها بالتّالي، ولهذا تساقط مُعظم الزعماء العرب الذين استولوا على الحكم عبرها في سنوات معدودة، ولا نعتقد أن الرئيس عمر البشير سيكون الأخير، فالقائمة طويلة والملكيّات غير مُحصّنة، وكذلك ما تبقّى من جمهوريّات بطبيعة الحال، والتّاريخ يُعيد نفسه كُل مئة عام، أو أقل.
***
إنّها نظريّة أحجار الدومينو التي تتساقط الواحدة بعد الأخرى، فلم يعُد هُناك ما يُمكن أن تخسره هذه الشّعوب التي يشكّل الشُباب العاطل عن العمل حواليّ 60 بالمئة من تعدادها، بعد أن نفذ صبرها وطفح كيلها وأصبحت أمام خيارين، إمّا الموت على ظُهور قوارب الهجرة، أو في ميادين المُواجهة، ويبدو أن الخِيار الأخير هو الذي يتقدّم هذه الأيّام، وبدأ يُعطي ثماره الطيّبة.
رحم الله أيّام “البيان الأوّل” الذي كانت كلمات فِلسطين، والتصدّي للاستعمار، والسيادة الوطنيُة تُزيّن فقراته، فعندما تترهّل الجُيوش، وينخرط قادتها في الفساد، فإنّ البديل هو البيان الحراكي الشعبي الأوّل، أو هكذا أثبتت الثّورتان الاخيرتان في الجزائر والسودان، وستُثبته الثّورات المُقبلة بإذن الله.
الثّورات تنتصر عندما لا تضع أجنداتها “سي آي إيه”، ولا يكون فيلسوفها برنارد هنري ليفي، ولا تكون “تل أبيب” قِبلَتها، وتُجسّد أروع صور الكرامة والوطنيّة في إطار السلميّة الحضاريّة.. والمُفاجآت القادِمة كثيرة.. والأيّام بيننا.
نقلا عن رأي اليوم