الجديد برس : رأي
علي دريج
ربما لم تحتج أنظمة الخليج في تاريخها، وعلى وجه التحديد السعودية، الى الافراط في تبديد أموالها كما هو حاصل اليوم، لاستمالة رجالات السياسة والبرلمانيين والاكاديميين والخبراء والمؤسسات النافذة والمؤثرة في السياسات الاميركية والغربية على اختلاف توصيفاتها واهميتها. فيما المقابل، الذي تتوخاه، هو ضمان استمرار بقاء حكامها على سدة عروشهم بمنأى عن الهزات والازمات المتتالية التي تضرب عالمنا العربي.
في اوساط النخب الغربية على دعم هذه المشيخات لأسباب عديدة. ومع اندلاع ثورات «الربيع العربي»، أضحت المخاطر أكبر.
في الواقع لم ولا تملك مشيخات النفط، وفي مقدمتها المملكة السعودية، منذ نشأتها حتى يومنا هذا، أي بدائل اخرى سوى العملة النقدية. فافتقادها أي من مقومات القوة (التطور الصناعي والتكنولوجي وقلة الطاقات العلمية والبشرية لديها، وعدم امتلاك جيش قوي) جعل المال وسيلتها الوحيدة لتحقيق أجنداتها المحلية والاقليمية ومآربها لتثبيت دعائم الحكم، حيث تحول البترودولار لاحقاً، الى استراتيجية أحادية، تم اعتمادها بشكل متزايد ولافت في الآونة الاخيرة لمقاومة الضغوط ومواجهة الازمات الداخلية والخارجية، وقد عرفت بـ«القوة الناعمة».
كل ما كتب ويكتب عن تراجع مكانة السعودية في الغرب، والولايات المتحدة تحديداً، تدحضه الوقائع التي تجعلك امام سيل من الاسئلة التي لا يتوقف ذهنك عن طرحها وتتلخص بالاتي: لماذا لم تتحدث وسائل الإعلام الغربية عمّا تمارسه السعودية في اليمن من قصف وارتكابها لجرائم حرب وجرائم إبادة، وتحمّلها جزءاً من مسؤولية تفشي وباء الكوليرا مقارنة بالتغطية الميدانية المكثفة لما يحدث في سوريا مثلاً؟
وكيف حصلت السعودية على مقعد في منظمة العمل الدولية وتشارك في وضع سياساتها وميزانيتها رغم ما تعاني منه قوانين العمل لديها من خروقات واضحة لمواثيق وقوانين العمل الدولية؟ وكيف تفوز المملكة بفترة ولاية ثالثة في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، كذلك لجنة المرأة، وهي التي لم تعط لنسائها حتى رخصة قيادة السيارة إلا قبل أشهر، فضلاً عن بقية حقوقها الأخرى؟
وكيف تحول الرئيس الاميركي دونالد ترامب، صاحب التصريحات القاسية والساخرة ضد النظام السعودي، والذي اتهم منافسته هيلاري كلينتون في الانتخابات الرئاسية الماضية بالتعاون مع السعودية وتلقّي أموال منها، الى أكبر داعم للعاهل السعودي ونظامه؟ وكيف سكت ويسكت الغرب عن نشر السعودية للفكر التكفيري، ودعمها وقطر للجماعات الارهابية (في 2018، عُرض فيلم وثائقي حمل عنوان «أسرار السعودية»، وهو من إنتاج مشترك لشبكة «زد دي إف» التلفزيونية الألمانية شبه الرسمية، وشبكة «بي بي سي» البريطانية، ويقدّم للجمهور الألماني والأوروبي صورة صادمة وغير معهودة عن المملكة، ككيان فاحش الثراء يوجّه منذ عقود مداخيله من أموال النفط لترويج نمط متشدّد من الإسلام، وفي دعم وتمويل الإرهاب إقليمياً وعالمياً)، وقتلها للمعارضين، وآخرهم جريمة تقطيع الصحافي السعودي جمال الخاشقجي «بالمنشار»؟ وما هو سر الازدواجية وسياسة غض النظر التي يتم التعاطى بها مع هذه الانظمة من قبل الغرب والولايات المتحدة الماضية، ومضيها قدماً في توفير جميع أسباب الرعاية والحماية والتبرير لأفعالها التي باتت تهدد العالم؟
ان يكون نظام ما أداة طيعة لتنفيذ السياسيات الاميركية، لم يكن يوماً معياراً لواشنطن لعدم التخلي عنه تبعاً لتبدل الظروف والأدوار، إذ إن هناك حكاماً وملوكاً ورؤساء لطالما حظوا بحماية اميركية وغربية لعقود طويلة، (شاه إيران، حسني مبارك، زين العابدين بن علي…)، لكن في لحظة مفصلية، فقدوا مظلة الحماية الاميركية والغربية لهم، بالرغم من ذوبانهم في سياسات واشنطن، وصولاً الى تقديمهم مصالح الغرب على مصالح شعوبهم.
إلا أن الحسابات تختلف عندما تملك دولة ثروات مالية لا تشحّ، إلا مع نضوب النفط، كمشيخات الخليج، خصوصاً السعودية. حينئذٍ، من الطبيعي أن يفسد «المال» مبادئ واشنطن لتحل محلها مبادئ أخرى، لعل أبرزها «من يدفع أكثر يحصل على الدعم والتأييد».
على الدوام، شكلت الاستراتيجية أعلاه السلاح الأمضى لدول الخليج والرياض. من خلالها تخطت المشاكل والمطبات التي اعترضتها داخلياً أو خارجياً، عبر اللجوء الى توظيف سلطة المال لديها واستخدام ثرواتها الريعية من النفط، لشراء التأثير والنفوذ وتوجهات البعض ومواقفه، الى جانب استثمارات في الثروات السيادية، وتقديم المساعدات الانمائية الانتقائية، ورعاية مشاريع تديرها جامعات مرقومة ومتاحف، وتجنيد المؤسسات الفكرية والمراكز البحثية والمراكز المتميّزة لصناعة الرأي والنخب السياسية المؤثرة، وغيرها من المراكز الثقافية المحترمة، والسيطرة على كيانات بعينها إدارياً ومالياً، وذلك من أجل إيجاد لوبي أميركي قوي مساند ومؤيد للسياسات الخليجية والسعودية.
«واشنطن بوست» كشفت أن السعودية أنفقت عام 2017 نحو 100 مليون دولار لإعادة بناء صورتها
لعبت جماعات الضغط التابعة لأنظمة الخليج والسعودية والإمارات وقطر خصوصاً، والموجودة بكثرة في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، (وما زالت تلعب) دوراً مؤثراً بشكل أو بآخر في السياسة الأميركية والرأي العام الغربي ككل.
تأتي الرياض في مقدمة الدول التي استثمرت في جماعات الضغط التي دعمت دائماً توجهاتها حيال الملفات الإقليمية التي تحتاج إليها، لا سيما حربها على اليمن وقضية الخاشقجي مثلاً. بعد عام 2011، بلغ إنفاق اللوبي السعودي، والذي عُرف بـ«لجنة شؤون العلاقات العامة السعودية الاميركية ــ سابراك»، بعد الاعلان عن إطلاقه في آذار 2016، أرقاماً قياسية. لقد كان دائماً هناك هبات خليجية، لكنها تصاعدت بشكل كبير بعد «الربيع العربي».
في السنوات القليلة الماضية، تعاظم نفوذ هذا اللوبي بشكل لافت، بحيث أصبحت قوته تضاهي، الى حد ما، قوة اللوبي الصهويني، وهو ما حدا بالموقع الالكتروني «truth out» الأميركي، المتخصص في التحليلات السياسية، الى المقارنة، في آب 2017، بين ما وصلت اليه الولايات المتحدة هذه الايام، حيث باتت أسيرة المال والدولارات وسهلة البيع والشراء، وما كانت عليه في ستينيات القرن الماضي، حين اشترط الرئيس الأميركي الأسبق جون كيندي إنهاء تجارة الرق كأحد شروط استمرار العلاقات السعودية الأميركية.
مع مرور الزمن، شوهت الأموال الخليجية «مجتمع السياسة الخارجية لواشنطن» الذي ساعد بفعالية في الترويج وتضخيم الأصوات المؤيدة للخليج. مجلة «ذي نايشن» الاسبوعية، والمقرّبة من صناع القرار السياسي، لفتت في تقرير لها، في 18 ايلول 2015، إلى أن الاموال السعودية لا تزال قادرة على شراء النفوذ في واشنطن، على الرغم من تراجع اعتماد الاقتصاد الاميركي على واردات النفط الخام من الجزيرة العربية.
صحيفة «واشنطن بوست»، من جهتها، كشفت عن أن السعودية أنفقت وحدها، في العام 2017 فقط، حوالى 100 مليون دولار لإعادة بناء صورتها، منها 27.3 مليون دولار على جماعات الضغط والاستشاريين، حيث تُبيّن السجلات العامة وجود 200 شخص مسجلين كعملاء للمملكة، بحسب ما أوضحه بن فريمان، من مركز السياسة الدولية.
مطلع عام 2014 ، أصبحت أموال الخليج في واشنطن لا لبس فيها. الامارات لم تكن أقل سخاء من حليفتها السعودية. فتمويل أبو ظبي لمراكز التفكير والأبحاث الغربية أثار الجدل في الولايات المتحدة وأوروبا، على إثر نشر وثائق مسرّبة من البريد الإلكتروني للسفير الإماراتي في واشنطن يوسف العتيبة (تم الاستيلاء عليها من حساب بريده الإلكتروني الخاص) وجعل بعض المراكز البحثية ــ خصوصاً في أعقاب مقتل الخاشقجي ــ تعلن توقفها عن قبول الدعم والمنح المالية الخليجية، وكان أبرزها «مركز التقدم الأميركي» الذي برزت فضيحته حول فصله لموظّفين سرّبا رسائل تثبت تأثيراً غير مقبول من الإمارات على آراء الباحثين في المركز.
وفقاً للوثيقة التي حصل عليها موقع «ذا إنترسبت»، كانت الإمارات العربية المتحدة على وشك المساهمة بمبلغ يقدر بحوالى 20 مليون دولار على امتداد سنتي 2016 و2017، لحساب «معهد الشرق الأوسط»، أحد أكبر خلايا التفكير في واشنطن، الى أن حدث التسريب.
في الواقع، لم يكن معهد الشرق الأوسط خلية التفكير الوحيدة التي كانت تتصيّده البترودولارات الإماراتية، غير أنه يعدّ من بين الخلايا الأكثر نشاطاً. ففي نيسان 2008، بعد شهر واحد من تعيين العتيبة في منصبه الجديد، قام ماك ماكليلاند الابن، وهو استشاري مقيم في الإمارات، بالتواصل بالنيابة عن رئيس مجلس إدارة «المعهد»، ويندي تشامبرلين، مع العتيبة، ليخبره بأنه التزم بجمع 50 مليون دولار من الإمارات العربية المتحدة لصالح «المعهد»، وطلب مساعدته لجمع هذا المبلغ.
على الدوام، ركز التمويل الإماراتي ــ السعودي على استهداف غالبية مراكز الأبحاث الكبرى مثل: تشاتهام هاوس، بروكينجز، مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، معهد الشرق الأوسط، مركز برنت سكوكروفت للأمن الدولي، ومركز الأمن الأميركي الجديد.
تظهر الرسائل الإلكترونية التي حظي بها موقع «ذا إنترسبت»، كيف ساعد إيان ديفيس، أحد كبار اللوبيات في شركة «أوكسيدنتال بتروليوم»، في توطيد الصلة بين العتيبة و«مركز الأمن الأميركي الجديد»، وهي خلية تفكير تم تأسيسها وإدارتها من قبل خبراء الأمن القومي الذين كانوا مرتبطين بإدارة أوباما، والتي كان العتيبة في حرب مفتوحة معها إلى النهاية.
يتألف «مركز الأمن الأميركي» من فرق تضم العديد من الوجوه السياسية والعسكرية المتقاعدة، من بينها فريق مقرّب جداً من إدارة أوباما، وتحظى تقاريرهم بمتابعة كبيرة واحترام في «الكابيتول هيل» وفي صلب الإدارة الأميركية.
أظهر البريد الإلكتروني للعتيبة أن «الغرب للبترول»، (شركة بترول وغاز أميركية مقرّها الرئيسي هيوستن في تكساس، وينحدر أبرز شركائها من الإمارات العربية المتحدة، ألا وهي الشركة الوطنية للبترول التي تعاقدت معها لمدة 30 سنة في مشروع مشترك وهو «مشروع غاز الحسن»، الذي يعدّ «أكبر مشروعات الغاز الطبيعي في الشرق الأوسط»)، تدعم سراً مركز الأمن الأميركي الجديد، وذلك خدمة لمصلحة الحكومة الإماراتية.
ولاحقاً، ظهرت مساعدة مؤسسي مركز الأمن الأميركي الجديد، عندما مرّروا وثائق تحث إدارة ترامب على التخفيف من القيود المفروضة على الإمارات العربية المتحدة بشأن نقل طائرات من دون طيار للمشيخة الصغيرة، التي عمدت ايضاً، الى تمويل افتتاح مكتب براق لمركز «الدراسات الاستراتيجية والدولية» (CSIS) وسط مدينة أبو ظبي بقيمة مليون دولار.
على المنوال نفسه، قطر إحدى الدول الخليجية الطامحة إلى لعب أدوار عالمية، قدمت هي الاخرى «تبرّعاً» بقيمة 14.8 مليون دولار لـ«مؤسسة بروكينجز»، التي تعدّ من أكثر مراكز الأبحاث احتراماً في واشنطن، لفتح مركز جديد في الدوحة، وهو ما تحقق بالفعل.
تأثير التمويل الخليجي خصوصًا (السعودي ــــ الإماراتي ــــ القطري) على سير أعمال الباحثين ببعض هذه المراكز أعلاه، دفع بمسؤولين في الإدارة الأميركية، الى وصف شارع «ماساتشوستس» في واشنطن، حيث يوجد العديد من مكاتب مراكز «التفكير» (THINK THANKS)، باعتبارها «أراضي محتلة من قبل العرب»، في إشارة الى العطاءات التي تقدمها لهم دول الخليج الغنية بالنفط.
في عام 2014 أيضًا، نشرت صحيفة «نيويورك تايمز» تحقيقاً عن تمويل الحكومات الأجنبية «مراكز الفكر»، كاشفة عن ارتفاع كبير في أرقام الهبات التي وصلت الى ملايين الدولارات تقدم على شكل تبرعات إلى العديد من المراكز الأكثر نفوذًا في واشنطن، والتي كانت تصدر أوراقًا بحثية، وتستضيف منتديات عالمية، وتنظم جلسات إحاطة تتماشى عادة مع جداول أعمال الحكومات الأجنبية (الخليجية)، لكبار المسؤولين في حكومة الولايات المتحدة.
تحدثت الصحيفة عن وقائع عدة، تظهر تأثير تبرعات الحكومات الأجنبية على سلوك مراكز التفكير والرأي، منها ما ذكرته عن الزائر السابق في «بروكينجز» في قطر، سليم علي، الذي قيل له وفقًا للصحيفة ألّا يكتب نقدًا للحكومة القطرية.
المثير أنه قد لا تجد أحدًا في العاملين في مراكز الدراسات التي تتلقى تمويلًا خليجيًا، يعترف «بالسحر الذي يفعله المال بهم»، لكنهم يعترفون بذلك بشكل غير مباشر، بحسب موقعVOX NEWS الإخباري الذي نقل عن خبراء يعملون في هذه المراكز وصفهم للتبرعات الخليجية بـ«أنها تقوم بدور أكثر ذكاءً في التأثير على واشنطن، وهو دور أقل وضوحًا، وبالتالي أقل دراماتيكية. لكن هذا الدور نظامي، ومن ثم فهو منتشر».
من منظور هؤلاء الخبراء، لا يعني أن تتلقى مؤسسة فكرية أو أكاديمية تموّل أعمالها من تبرعات خليجية أنهم اشتروها ودفعوا ثمنها. لكنهم يقرّون بأنه نوع من تأثير إسكات الصوت. إنه يتعلق بما لا يتم كتابته. فهم لا يجادلون بوجود تأثير غير معلن، فالباحثون الذين يدركون بشكل طبيعي حساسيات الممولين، عليهم أن يفكروا مرتين قبل الكتابة بشكل نقدي حول هذه القضايا.
يفصح أحد الخبراء العاملين في هذه المراكز، عن الأفكار التي قد تكون لدى باحث يموّله الخليج، بالقول «يمكنني الكتابة عن الطائفية في السعودية، لكنني قد أخسر بعض المال، ويمكنني أيضًا أن أكتب عن انتهاكات حقوق الإنسان في الإمارات، ولكن، كما تعلمون، هناك انتهاكات في كل مكان، وهناك ملايين الأشياء الأخرى يمكنني الكتابة عنها».
خبير آخر يلخص الواقع بكلمات تؤكد التأثير الخليجي على سياسة المراكز البحثية والفكرية، فيشير الى أنه «ربما لن يؤثر ذلك على كيفية إجراء التحليل، لكن قد يكون هناك بعض الرقابة الذاتية على مواضيع معينة لا تثيرها دون داع، وهي موضوعات حساسة للسعوديين أو غيرهم في الخليج». ويضيف «إن مخاطر الرقابة الذاتية تصبح واضحة بشكل خاص، عندما يعد الممولون الأجانب بالتبرعات المتكررة، بدلًا من كتابة شيك لمرة واحدة، فيما النوع الخطير من التمويل هو تجديد التمويل، لأنه يؤدي إلى الرقابة الذاتية».
التبرع المتكرر يعطي المانح مزيداً من النفوذ بسبب التهديد الضمني بالانسحاب.
الكثير من الأكاديميين والباحثين لا يجدون حرجًا في الاعتراف بأن هناك نوعًا من المحرمات تتمثل بعدم استفزاز دول الخليج بلا مبرر، إن من خلال انتقادها أو اتخاذ مواقف سياسية تعتبرها تلك الدول خطوطًا حمرًا، خوفًا من إغضاب متبرع حالي أو نفور متبرع في المستقبل. أحدهم يوضح أن «الجميع يعرف ذلك، لكن لا أحد يحب التحدث عنه، لأنهم جميعًا يريدون المال أيضًا. لا أحد يريد المخاطرة بأن مؤسستهم لن تحصل على نصيبها من الكعكة».
تبعية المؤسسات البحثية والأكاديمية الأميركية والغربية، أخذت منحًى تصاعديًا مع نضوب المصادر التقليدية للتمويل كدعم الحكومة المحلية مثلًا، لذا باتت تتنافس على أموال الخليج، وتقدم زمالات أو مراكز أبحاث جيدة التجهيز أو ممولة من الخليج، أو رواتب وموارد مالية جيدة يمكن لأي شخص من خلالها التقدم في مسيرته المهنية، مقابل تضخيم وجهات نظر السياسة الخليجية.
من الصعب العثور على مؤسسة بريطانية تركز على منطقة الشرق الأوسط لم تتلقَّ الهدايا من مشيخات الخليج
معظم القائمين على مؤسسات السياسة الخارجية لواشنطن توجهوا أو زاروا الإمارات، وجرى تبرير ذلك بأنه رحلة عمل، لكنها بالمقابل كانت مريحة لتولد لديهم ما يكفي من المشاعر التي تجعلهم مولعين بالإمارات. يقول أكاديمي أميركي مقيم في الشرق الأوسط لموقع VOX في معرض تعليقه على تلك الزيارات: «إنهم يسافرون في مقاعد الدرجة الأولى، ويزورون المتاحف، ويقولون بعدها إنهم ذهبوا إلى الشرق الأوسط». ويضيف: بالمقابل المسؤولون الإماراتيون، غالبًا ما يكونون على دراية بالعادات الأميركية، سعداء بالترفيه عنهم. فالإمارات لديها رسالة مقنعة لتوصيلها إلى جمهور صغير ــــ لكنه قوي ــــ من نخب السياسة الخارجية الأميركية. إن سماع هذه الرسالة، بالطبع، لا يحوّل هؤلاء النخب الأميركية إلى أتباع موالين للإمارات. لكن الألفة والعلاقات الشخصية يمكن أن تكوّن قوى قوية ولاحقًا مؤثرة.
الممالك الخليجية تولت كذلك رعاية عدد من الجامعات الغربية البارزة وبعض أساتذتها ومراكز البحوث فيها والبرامج البحثية الخاصة بها. صحيفة ناشيونال أوبسيرفر الكندية ذكرت أن السعودية تبرعت بالفعل بحوالى 30 مليون دولار لمبنى جديد لـ«مركز أوكسفورد للدراسات الإسلامية» التابع لجامعة أوكسفورد العريقة، ويضم هذا المركز عددًا كبيرًا من الزمالات الممنوحة.
التمويل السعودي طاول أيضًا جامعة أركنساس التي مُنحت حوالى 27 مليون دولار كهبة لمركز دراسات الشرق الأوسط التابع لها. إضافة الى العديد من الجامعات، منها: كورنيل، وروتجرز، وبرنستون وغيرها. فعلى سبيل المثال، سميت أستاذية الفكر والثقافة الإسلامية في جامعة كاليفورنيا تيمنًا باسم الملك السعودي السابق فيصل بن عبد العزيز آل سعود.
وفي السياق ذاته، ذكرت صحيفة واشنطن بوست أنه في عام 2005، أعيد تسمية مركز التفاهم الإسلامي ــــ المسيحي في جامعة جورجتاون، ليصبح مركز الوليد بن طلال، بعد تلقيه هبة بقيمة 20 مليون دولار من الوليد، وهذا ما دفع أحد أعضاء الكونغرس حينها الى التساؤل عما إذا كان هذا المركز وجّه انتقادًا للسعودية.
ونظرًا إلى الروابط التاريخية بين بريطانيا ومشيخات الخليج، من الصعب العثور على مؤسسة بريطانية رائدة تركز على منطقة الشرق الأوسط لم تتلقَّ جميع أصناف الهدايا.
في عام 2006 عينت جامعة إكسيتر العريقة التي تعدّ موطن المركز الوحيد في لندن للدراسات الخليجية، حاكم الشارقة سلطان بن محمد القاسمي، عضوًا مؤسسًا لكلية المتبرعين لديها، وذلك كعرفان بالجميل، بعدما دفع سلطان مبلغًا من المال لمبنى القاسمي في الجامعة (الذي يضم معهدًا للدراسات الإسلامية والعربية)، وموّل اثنتين من الأستاذيات: أستاذية الشارقة للدراسات العربية والثقافة المادية الإسلامية، وأستاذية الشارقة للدراسات الإسلامية.
وفي جامعة درهام التي تعد موطن إحدى أكبر التجمعات في بريطانيا للأكاديميين الذين يعملون على دراسات حول الشرق الأوسط، دفع حاكم الشارقة أيضًا، مبلغًا لمبنى آخر تحت اسم القاسمي (كان يضم في الأصل معهد درهام للدراسات الإسلامية والشرق أوسطية، ويضم الآن كلية الشؤون الحكومية والدولية)، وموّل كذلك أستاذية الشارقة للشريعة والعلوم الإسلامية.
وعلى المنوال ذاته، قدمت مؤسسة الإمارات للنفع الاجتماعي التي تمولها أبو ظبي، حوالى 15 مليون دولار لإطلاق مركز جديد للدراسات الإسلامية في كلية لندن للاقتصاد، و3 ملايين إضافية لتسمية المسرح الرئيس في المبنى الأكاديمي للكلية، باسم زايد بن سلطان آل نهيان. كما موّلت أستاذية ممنوحة ــــ أستاذية الإمارات للشرق الأوسط المعاصر ــــ التي لا يركز حاملها على الممالك الخليجية.
وللغاية نفسها، دفع حاكم قطر السابق نحو 3.5 ملايين دولار لجامعة أوكسفورد، لمنح أستاذية جديدة سميت تيمّنًا باسمه، أستاذية «صاحب السمو حمد بن خليفة آل ثاني» في الدراسات الإسلامية المعاصرة.
وفي عام 2009 مولت الإمارات بناء قاعدة جديدة للسكن في أكاديمية «ساندهيرست» البريطانية وهي تعد مدرسة تدريب نخبة الجيش البريطاني، لإيواء مئة طالب.
التمويل للصروح الأكاديمية الأميركية والبريطانية وصل الى ما يشبه التنافس بين المشيخات الخليجية. حاكم سلطنة عُمان لم يشذّ عن القاعدة، فقد دفع لأستاذيتين في جامعة كامبريدج ــــ وهما بمنأى آمن عن أي نقاش في السياسات الخليجية ــــ أستاذية كرسي صاحب الجلالة قابوس بن سعيد للغة العربية المعاصرة، وأستاذية السلطان قابوس للدراسات الإبراهيمية والقيم المشتركة.
في الظاهر، معظم هذه الهبات تقدم من دون مقابل، لكن المانحين يتعمدون عادة التعويل على ثقافة الرقابة الذاتية المترسخة في هذه المؤسسات المستفيدة. فمن الصعب أن نتخيل طالبًا جامعيًا دون مصدر بديل للدخل، أن يجري بحثًا أو يكتب نقدًا عن نظام يدفع له أو لها راتبًا، أو يقدم له المبنى الذي يضم مكتبه أو مكتبها.
أكثر من ذلك، فبالإضافة الى تعزيز مبدأ الرقابة الذاتية، تميل التبرعات الى التشجيع على الاتجاه بالنقاش الأكاديمي بعيداً عن مشيخات الخليج، وخصوصاً السياسات المتعلقة بسياستها المحلية ومجتمعاتها، وحث هذه الجامعات على القيام بأبحاث مرتبطة بمواضيع أكثر أمنًا في المنطقة مثل الدراسات حول اللغة العربية أو الحضارة الإسلامية.
* كاتب لبناني
نقلا عن جريدة الأخبار