الجديد برس : رأي
غالب قنديل
يصر البعض بحماس شديد على استنكار الكلام عن قيادة خفية للانتفاضة الشعبية، ولكن الوقائع التي شهدناها خلال الأيام الأخيرة تقول العكس تماما.
أولاً: انكشفت القوى الحزبية والسياسية التي ركبت الانتفاضة وهي تقوم باستثمارها للتحكم بمعادلات الحكومة الجديدة، وتضم تيار المستقبل وكلا من حزب القوات والتقدمي الاشتراكي والجماعة الإسلامية. وهذه القوى تتشارك الشروط والتوجهات ذاتها التي وردت في بيانات أميركية وفرنسية مع مجموعات حراكية تتلقى الدعم الغربي وتضم أحزابا تقليدية وأحزابا مستجدة على النادي السياسي تجد في الانتفاضة فرصة لفرض حضورها.
ثانياً: أسقطت الأحداث سردية “الحراك بلا رأس” المستنسخة عن تجارب الثورات الملونة التي يتباهى المخططون الأميركيون بأنهم أصحابها ومالكو براءة اختراعها، فمن فاوضهم ضباط الجيش اللبناني وقوى الأمن الداخلي على فتح الطرقات المغلقة هم أشخاص بأسماء ووجوه وعناوين وبعضهم يحملون بطاقات حزبية وانتماءات معروفة. ولعل سقطة قطع الطرق كانت من هذه الزاوية مقتلا للانتفاضة في الشكل والمضمون وأول مؤشرات نفي العفوية.
ثالثاً: كشف قطع الطرقات وجود شبكة قيادية تولت إصدار التعليمات والأوامر إلى مجموعات صغيرة لا ترقى إلى مستوى الحشد الشعبي للتظاهر، وأحيانا كانت محدودة بحجم أصابع اليدين تجمعت خلف القواطع الحديدية والإطارات المشتعلة.
رابعاً: تبين من بوادر الاتصالات التفاوضية التي ظهرت وجود قادة وممثلين في مجموعات الحراك تمت دعوتهم إلى جلسات استكشاف تفاوضية من جهات سياسية قيادية محلية ومن جهات أجنبية متدخلة بحثا عن الوساطات الممكنة وقد شاركوا في اتصالات متعددة الوجوه والمستويات، وبذلك تبددت الصورة العمومية التي أريد رسمها في البداية تحت شعار العفوية وبتصميم واضح على إنكار وجود قيادة واستنكار كل ما نشر من معلومات وتقارير عن خيوط التوجيه والتحريك الظاهرة.
خامساً: صدرت اعترافات متعددة من داخل الحراك عن وجود شبكة تخطيط وتوجيه تحدد الأهداف والشعارات وتوقيت الخطوات المتخذة وغرف عمليات تتحكم بالحواجز وبالاعتصامات وبعمليات التجمهر التي اظهر المشاركون فيها تصرفات هادفة بكل وضوح وعبروا عن مواقفهم بمفردات متشابهة.
سادساً: الجهات التي ظلت مبعثرة في الساحات والتجمعات هي أطراف اليسار الحراكيين الذين حكمهم تنافر مزمن يتصل بأمزجة الزعماء وبحسابات القادة الذين لم يفلحوا طيلة السنوات الماضية في توحيد جهودهم حتى عندما تتشابه الأهداف والشعارات، ناهيك عن بناء جبهة وطنية ببرنامج واضح تمتلك القدرة على انتزاع دور أساسي في حلف وطني عريض.
سابعاً: في صلب البنية المركبة لآلة القيادة والتنظيم والتوجيه والتعبئة، لعبت أدوات التواصل الاجتماعي دورا معروفا بالربط بين الجماعات الحزبية وغير الحزبية المشاركة بتوجيه من مدربين جامعيين عملوا ضمن فرق منظمة مع طلابهم.
ثامناً: ينبغي ملاحظة حجم انخراط الفئات الوسطى المدينية التي استشعرت تهديدا جديا بالانهيار وأصابها الذعر، وهي تركت بصماتها بعلامات فارقة؛ منها رفع شعارات غير طائفية وبحدية رد الفعل الرافض للسلطة بجميع أطرافها. وقد تضمنت هذه الكتلة الحيوية أساتذة وخريجين عاطلين عن العمل إلى جانب الطلاب، وهي تركت بصماتها بتعبيرات ثقافية وسياسية تعكس هويتها وتطلعاتها.
تاسعاً: من أدوات القيادة والتحكم في التحركات الشعبية برز دور مركزي لعبته بعض وسائل الإعلام المرئية التي قامت بتحديد أماكن التجمع عبر بثها الحي المفتوح، وحيث كان انتقال الكاميرات والمراسلين إلى أي ساحة أو نقطة بمثابة دعوة للتجمع، في حين لعب بعض المراسلين والمعدين دورا تنظيميا مباشرا في الضبط والربط وإنتاج الشعارات ورسم الأهداف.
إن الهدف المطروح للتداول هو اختيار رئيس للحكومة من نادي النظام وتشكيل حكومة تشارك فيها أطراف السلطة القائمة بممثليها وخبرائها، وثمة من يقترح تمثيل مجموعات الحراك، وهذا بذاته قد يكون تحولا له تفاعلاته في صفوف المجموعات التي تباهت بأنها بلا هيكيلة أو برنامج منذ اليوم الأول.
* كاتب لبناني