الجديد برس : رأي
روبير بشعلاني
صار من الواضح اليوم أن هناك هجمة أمريكية على لبنان، تتمثل بحصار اقتصادي ومالي يستدرج فوضى وعدم استقرار يعززه إسقاط الحكومة وفرض شروط تعجيزية أمام تأليف حكومة جديدة. وصار من الواضح كذلك أن هذه الهجمة جزءٌ من هجمة أمريكية أوسع، طالت المنطقة والإقليم ككل؛ فهي تطال إيران والعراق وسوريا والأردن ولبنان وفلسطين. كما أنه وبعد شهر من بدء هذه الهجمة، اتضح أن الهجمة تتوسل الأدوات الاقتصادية والمالية التي تستهدف وحدة الاجتماع المحلي وتلاحم نسيجه.
غنيٌّ عن البيان أيضا، لمن يتابع شؤون الكون، أن هذه الهجمة تنخرط في مشروع عالمي يطال الكرة الأرضية ككل، ويصيب حلفاء الولايات المتحدة الأمريكية قبل خصومها. سلوكٌ أمريكيٌّ عدوانيٌّ لا يعبِّر في هذا الوقت إلا عن حالة مأزقية بنيوية تعيشها النخبة الأمريكية، التي تعودت أن تكون في مأمن من صروف الدهر وتقلباته. حالةٌ من القلق الشديد الذي لم يعدْ يعبّر عنه بالسر أو بلغة موارِبة، بل صار لغة معترفا بها وصريحة لأيٍّ مسؤول أمريكي أو خبير أو إعلامي. صار من الطبيعي أن يخرج المسؤولون الأمريكيون أمام الكاميرات لكي يقولوا بوضوح: “نحن في صراع مع الصين، ودول العالم ساحاته”.
إن بروز دول صاعدة هدد مصادر معاش هذه الولايات الأمريكية، وجعلها عرضة للانكفاء والتراجع والأفول. إنها الشرق يا غبي. ثأر التاريخ أم نكد الدهر؟ لا فرق أمام النتيجة. ما هو مؤكدٌ أنه لم تعدْ أمام هذه الإمبراطورية فرصةٌ للمنافسة المشروعة في المجال الاقتصادي، أو أيُّ أمل بإضعاف خصومها وإعادتهم الى القمقم. لم يعدْ أمامها إلا استعمال عضلات باقية لمارد مريض. لم يعدْ أمام هذا المارد المريض إذن إلا استعمال دول الكون كـ”ساحات” منازلة ضد دول الصعود.
الأكيد حتى الآن أن هذه المنازلة تاريخيةٌ ولن تنتهي غدا. فإذا كان من الصحيح أن الميل العام للتاريخ صار واضحا للجميع، إلا أن ذلك لن يختصر آلام البشرية للأسف. والصحيح أيضا أن هذه الإمبراطورية ماتزال تملك من القوة ومن الحركة “الستاتية” ما يمكّنها من البقاء وإعادة إنتاج نفسها بضع سنوات أو عقود ستكون طويلة جدا في حياة البشرية.
إذن، الصراع معها مفروضٌ، ودفاع “الساحات” عن نفسها ضرورةٌ ولا غنى عنه. إن وعي النخبة الأمريكية لمأزقها جعلها غير منفتحة على التسويات ولا على الحلول الوسط. أصبحت تريد كل شيء أو الهزيمة الكلية. رفضها للمساكنة في العراق ولبنان، رفضها الاعتراف بهزيمتها في سوريا واليمن، ومواصلة المناورات العسكرية والنفطية، الانقلاب على الاتفاق النووي مع إيران، بوليفيا وفنزويلا، إلخ، إلخ… هي مجرد أمثلة حية على هذه العدوانية المستجدة.
الاستنتاج الأول هو أن الإمبراطورية الأمريكية لن تموت غدا، ولن تموت لوحدها، فهي تحتاج إلينا لكي نساعدها على ذلك قليلا. وهي، في وضعها الحالي، لا تحتمل قابلية العودة إلى التسوية وأنصاف الحلول.
الآن، في هكذا صراع، هناك دولٌ تملك أكثر من غيرها القدرة على تحمُّل هذه الفترة الانتقالية في التاريخ. لكن ثمة دولٌ، و”ساحاتٌ” من بينها نحن، للأسف، لا تملك هذا الرصيد. وعلينا ربما أن نتحرك بما تمليه علينا حماية “ساحتنا” على الأقل.
العنف والفوضى مفروضان علينا عنوة، رضينا أم رفضنا. ليس رد فعلنا هو الذي يحدد تعرضنا لهذا العنف، بل موقعنا الجغرافي في هذا الصراع كما صرَّح جيفري فيلتمان أمام الكونغرس الأمريكي. ونحن، إذا ما قمنا بما هو ضروريٌّ لحماية “ساحتنا”، فلسنا ننتقل إلى الهجوم، بل نعزز الدفاع فحسب.
لكل هذا، وكخطوة دفاعية، ولحماية “ساحتنا” من الآثار التدميرية لهذا الصراع العالمي، نرى أنه من الواجب اليوم العمل على تقارب بيني عربي يشمل الحدود والاقتصاد والمال والسياسة، ويمتد إلى الإقليم الأوسع، مع الانفتاح على دول الصعود في العالم، وذلك فقط لتمرير هذه الفترة على خير.
التوجُّه شرقا ضمانة بقاء “الساحة”.
(*) كاتب لبناني
رئيس تحرير صحيفة “ميسلون” الإلكترونية