الجديد برس : رأي
د. وفيق إبراهيم – كاتب وباحث سياسي لبناني –
يدافع اليمنيون عن بلادهم بضراوة واستبسال منذ خمس سنوات متواصلة، تبدو كافية لينتقلوا إلى مرحلة استهداف الخصم في قلبه. الخصم المباشر هنا هو التحالف السعودي ـ الإماراتي والمرتزقة اليمنيّون والعرب وبعض الإقليم بتغطية “إسرائيليّة”. أما العدو الأكبر صاحب مشروع السيطرة على اليمن فهم الأمريكيون.
هذا التشابك في القوى التي تهاجم اليمن وتسفك دماء مدنييه وأطفاله تطلّبت نبوغاً بمستوى رفيع لجمعها في أهداف واحدة. فإذا كانت بقيق وخريص وينبع وأرامكو وغيرها ممتلكات سعودية في ظاهرها، فهي في عمقها جزء أساسي من الاقتصاد الغربي بسيطرته الأمريكية. وهذا هو الجيوبوليتيك الأمريكي الذي يعتبر أن حدود بلاده تصل إلى حيث توجد مصالحها الاقتصادية. وبما أن السعودية هي الجزء الحلوب الأساسي بالنسبة للأمريكيين فتشكل عصبهم الاقتصادي منذ العام 1945، أي التاريخ الذي وقع فيه الرئيس الأمريكي روزفلت والعاهل السعودي عبدالعزيز معاهدة “كوينسي”، التي لا تزال تستند حتى اليوم إلى توفير الحماية الأمريكية لشبه جزيرة العرب مقابل أولوية الأمريكيين في الاستفادة من الثروات الاقتصادية لهذه المنطقة.
بناء عليه، يطبق الأمريكيون هذه المعادلة ببراعة على الرغم من اكتشافهم كميات ضخمة من النفط الصخري في بلادهم، لكنها لم تمنعهم من مواصلة اعتبار هذه المنطقة، الممتدة من الكويت والبحرين والإمارات والسعودية وعمان وقطر، أهم مناطقهم الجيوبوليتيكية في الاقتصاد والاستراتيجيا والسيطرة على العالم الإسلامي من خلال الدين والمكرمات والقواعد العسكرية. هذا ما دفع الأمريكيين إلى مباركة الهجوم السعودي الإماراتي على اليمن بدعم إقليمي ودولي وحشود من المرتزقة المحليين والإقليميين، والذي شن منذ 2015 عملية واسعة لاجتياح اليمن، متوهماً أن بضعة أسابيع أو أشهر في أقصى الاحتمالات كافية لسحق القوى الوطنية اليمنية التي تمكنت من الانتصار على قوى العدوان ومرتزقتها اليمنيين. لكن هذا العدوان لا يزال مستمراً منقلباً على منفذيه، من مستوى هجمات ضارية كانوا ينفّذونها وقتلت حتى الآن عشرات آلاف المدنيين والنساء والأطفال، إلى مرحلة الدفاع عن مواقعهم التي احتلوها داخل الجغرافيا اليمنية.
عند هذا الحد يبدو الأمر مقبولاً وعادياً؛ لكن اليمنيين خالفوا “المعهود” التقليديّ ذاهبين إلى تحليل يجمع بين المعتدي المباشر وصاحب الخطة، ما جعلهم يربطون بين السعودي والإماراتي والجيوبوليتيك الأمريكي الذي يرعاهما بالسلاح والتدريب والخطة والأقمار الاصطناعية، وأخيراً صاحب مشروع الهجوم الحقيقي على اليمن وهو الأمريكي.
بناء على هذا التحليل ابتكرت العبقرية اليمنية خطة لهجمات عسكرية تعكس ثلاث نقاط:
النقطة الأولى تؤكد على تجاوز اليمن مرحلة الدفاع إلى مرحلة الهجوم الرادع. النقطة الثانية تجسّد الهجوم على السعودية لإجهاض مشروعها في اليمن. فيما تذهب النقطة الثالثة نحو كل عناصر الحرب على اليمن من المنفذ السعودي المباشر الجيوبوليتيكي منها. فاليمن بالنسبة للأمريكي هو ممرات استراتيجية من بحر عدن وتفرعه نحو المحيط الهندي والبحر الأحمر مروراً بباب المندب وصولاً إلى قناة السويس، ومسيطراً على حركة المرور البحري من شط العرب العراقي إلى مضيق هرمز.
اليمن إذاً هو 18 مليون برميل نفط خليجي تجتاز بحاره و20% من التجارة العالمية تختال في مياهه، فكيف يمكن للأمريكيين القبول بتحوّله إلى دولة تجسّد طموحات أهلها ومصالحهم. هذا ما دفع اليمنيين إلى انتقاء أهداف سعودية تضرب العلاقة بين السعودي والإماراتي ومعلمهما الأمريكي. فجاءت خطط توازن الردع تضبط المقاس المطلوب، على قاعدة توفير الآليات التي يستطيع بها اليمنيون الوصول إلى التأثير على المواقع المشتركة للسعوديين والأمريكيين.
وبما أن الحاجة أم الاختراع كما تقول العرب، فقد كان لزاماً توفير مسيّرات متطورة وصواريخ هجومية وأخرى للدفاع الجوي وأسلحة نوعية في يمن محاصر جواً من الأقمار الاصطناعية الأمريكية وبحراً من السعودية ومصر و”إسرائيل” والبوارج الأمريكية والبريطانية الراصدة حتى للسمك، وبراً من الحدود مع السعودية وعُمان والعدوان البري السعودي ـ الإماراتي الذي يحاصر الشمال وقسماً من الوسط، فكيف يمكن لليمن جلب هذه المعدات من الخارج؟!
لذلك، وبمدة قياسيّة، توصل اليمنيون إلى إنتاج صناعي عسكري يطابق فكرة ضرب أهداف سعودية أمريكية في آن معاً. لكنهم بدؤوها بتحرير مناطق واسعة في أعالي صعدة ونهم والجوف وأجزاء من مأرب والصمود في الساحل الغربي، وطوّروها بهجمات من طائرات مسيّرة وصواريخ هجوميّة، أصابت أرامكو وسواحل البحر الأحمر والخط الممتدّ منه إلى خريص وبقيق وسواحل المنطقة الشرقية في بحر الخليج، وهي أهداف نفطية ـ اقتصادية تستوطن قلب الاقتصاد الغربي وعمائم بني سعود.
ولقلب معادلة القوة نهائياً، أعلن اليمنيون عن صواريخ للدفاع الجوي تستطيع تدريجياً النيل من آخر مرتكزات القوة السعودية والإماراتية التي تسيطر على أجواء اليمن. بذلك يستطيع اليمنيون بواسطة صواريخهم من نوع “ثاقب” و”فاطر” أن يثقبوا الهيمنة الأمريكية السعودية الإماراتية ويفطروا قلوب المعتدين الحريصين على مصالحهم الاقتصادية والاستراتيجية.
الحرب الأمريكية على اليمن إلى أين؟
لا تزال السعودية تحتل مساحة هامة في النفوذ الأمريكي. ولشدة ذعر بني سعود من خسارة هذه المكانة تعمدوا إعلان البدء باستغلال آبار في مساحة 17 ألف كيلومتر مربع في المنطقة الشرقية تحتوي على نحو 200 مليار متر مكعب من الغاز. وهذا كافٍ لتسييل لعاب الاقتصاد الأمريكي، الذي تعكف آلياته العسكرية الغربية على البحث عن آليات دفاع جديدة عنه، خصوصاً أن مرحلة الصراع على الغاز بدأت بقوة في البحر المتوسط وتنتقل تدريجياً نحو شبه جزيرة العرب واليمن. لكن المشكلة هي في استهلاك السعوديين والأمريكيين معظم آليات القوة الممكنة، ما قد يفرض عليهم هدنة تسمح باستئناف المفاوضات اليمنية ـ اليمنية على قاعدة اتفاق ستوكهولم، شرط عدم التدخل السعودي الأمريكي، ووقف حربهما على اليمن، كنتيجة للأسلحة اليمنية الجديدة القابلة لمزيد من التطوّر على أساس الاستهداف الدائم للجيوبوليتيك الأمريكي في قلب جزيرة العرب.