الجديد برس : رأي
د. وفيق إبراهيم
ليس من قبيل المصادفة أن تجتمع عناصر متشابهة للسيطرة على ثلاثة بلدان تطلّ على البحر الأحمر ومياه الخليج والبحر الأبيض المتوسط.
فاليمن يُمسك بحركة العبور البحري من الخليج إلى المحيط الهندي، ومنه أيضاً إلى البحر الأحمر وباب المندب وقناة السويس.
بينما العراق هو البلد الأكبر سكاناً الذي يجاور بلدان الرعاية الأمريكية القصوى في الخليج، ويربط إيران بسوريا محاذياً تركيا والكويت.
أما سوريا فهي قلب الشرق، ومَن يمسك بها يسيطر على لبنان والأردن وفلسطين ومعظم العراق.
هذه هي الأهميات التي يريد الأمريكيون، مع السعودية وتركيا، الإمساك بها وتطويرها في خدمة مصالحهم العربية والإقليمية والدولية.
ما هي هذه العناصر؟
القوى الأمريكية والتركية والسعودية تسعى منذ 3 عقود إلى خنق المحور السوري ـ العراقي ـ اليمني.
فبدأت في التسعينيات بحصار بلد الرافدين، وواصلته مع بدء الحملة الكونيّة على سوريا منذ عقد تقريباً، وهي تجتاز السنوات الخمس في هجومها على اليمن.
قد تبدو عناوين الهجمات على هذه الدول مختلفة، لكن مضامينها واحدة. فبذريعة وجود أسلحة للدمار الشامل في العراق، هاجمه الأمريكيون في العام 2003 بشكل عسكري مباشر، وسرعان ما انتشر إرهاب ضخم، تذرّع الأمريكيون به للبقاء، منظمين تعايشاً علنياً مع داعش والقاعدة كاد أن يطيح بالدولة لولا دعوة المرجعيّة الدينية العليا للعراقيين إلى الاستنفار، فكان الحشد الشعبيّ الذي قضى عليه.
ولجهة سوريا فقد تكفلت السعودية وتركيا وقطر والإمارات بتحريض جماعات إرهابية على تنظيم تمرّد شعبي مسلح ارتدى اللبوس الطائفية في معظم سوريا، وتبين أنها منظمات القاعدة وداعش والنصرة وعشرات التنظيمات الإخوانية والتركمانية. لكنها فشلت، فكشف الأمريكي عن وجهه وتدخل عسكرياً ومعه فريق دول الناتو الأوروبي اللاهث خلف أي نفوذ يجعله شريكاً في التحاصص الدولي، هذا إلى جانب الاحتلال العسكري التركي الذي يمسك ببعض المناطق السورية في الشمال الغربي والشرقي.
ماذا عن اليمن؟ شنت عليه السعودية والإمارات حرباً عدوانية منذ نصف عقد، ولا تزال مستمرة، بدعم عسكري مكشوف من أمريكا والناتو الأوروبي ومرتزقة من السودان والأردن ومصر وباكستان و”إسرائيل”. ولم يتمكن الجانب الخليجي المهاجم من إخفاء البعد الأمريكي الأساسي لهذه الحرب. هذا إلى جانب الدور التركي الكبير فيها، الداعم لحزب الإصلاح اليمني الذي يشكل فريقاً من فدرالية الإخوان المسلمين، إضافة إلى المليشيات المسلحة في جنوب اليمن.
يتبيّن أن العناصر الثلاثة الأولى تظهر في الحلف الأمريكي -السعودي- التركي عن تعمد وليس بالمصادفة، ولديه مشروع عنوانه الأساسي أمريكي، ويقضي -كما قال الرئيس التركي أردوغان علناً في واحد من خطاباته أمام الجمهور- بأن البيت الأبيض الأمريكي كلف تركيا بالدور الأساسي في معركة التأسيس للشرق الوسط الكبير.
لقد اختار الأمريكيون الإمساك بالشرق الأوسط من خلال الإطباق على العراق وسوريا واليمن، في الشرق العربي، مانعين أي نقل للسلطة في مصر مثلاً من الجيش حتى إلى الإخوان المسلمين، موفرين حمايات هائلة لخليجهم النفطي والأردن، فبدت مشاريعهم مصرَّة على الإمساك بهذه الدول أو تفتيتها، للعديد من الاعتبارات، أهمها:
1. بالنسبة إلى العراق، فإن الإمساك بالدولة فيه، أو تفتيتها إلى 3 كيانات، يحمي الخليج كأهم منطقة نفطية للمصالح الأمريكية في العالم، ويضعف إيران بضرب تفاعلاتها من حدودها مع العراق مروراً بسوريا حتى البحر الأبيض المتوسط في لبنان.
2. على المستوى اليمني، بدا أن هناك إصراراً أمريكياً عنيفاً جداً يرفض أي تغيير في سياسات الدولة اليمنية، بحيث يجب أن تبقى في خدمة السعودية والمصالح الكبرى الأمريكية، لأن أي تغيير حقيقي في السياسة اليمنية يعني بناء دولة مستقلة ترفض الوصاية السعودية وتعمل على الاستفادة من مصادر الطاقة المتوفرة فيها، وموقعها البحري والبري الاستراتيجي، ما يؤهلها لأداء دور إقليمي في جزيرة العرب، وربما الشرق العربي.
3.لجهة سوريا، التي تجتاز عامها العاشر في التصدي للحرب التي تستهدفها، فإن القضاء على دولتها يؤدي فوراً إلى القضاء على القضية الفلسطينية نهائياً والدور المقاوم في لبنان، متيحاً إعلان حلف عربي ـ “إسرائيلي” بقيادة أمريكية من دون أي اعتراض من أي مصدر، وهذا من شأنه إعادة كامل المنطقة العربية إلى مرحلة النصف الثاني من القرن الـ19، الذي ساده الاستعمار المباشر.
بذلك يمكن الاستنتاج أن المشروع الأمريكي في اليمن والعراق وسوريا يريد إمساكاً نهائياً وقوياً بالشرق الأوسط وإخضاعاً متكاملاً للعالم الإسلامي.
إنما لماذا يعمل الأمريكيون على مشروع يمسكون أصلاً بالقسم الأكبر منه دون حروب؟!
الأمريكيون يريدون استغلال تفرّدهم بالقطبية العالمية لإعادة تشكيل القسم الأغنى والأضعف من العالم بطريقة تبقي على سيطرتهم مستمرة لمصادر الطاقة في المنطقة بين أيديهم.
هذا ما أرادوه، فماذا عن النتائج التي جنوها بعد نحو 3 عقود من إطلاق هجماتهم؟
لم يتمكّن الأمريكيون من الإمساك بالعراق، محاولين إبقاء قواتهم فيه، وسط صليات صاروخية تصيب قواعدهم وتجعلهم في عزلة شديدة داخل قواعدهم. ولولا الدعم الذي يأتيهم من جماعات عراقية انفصالية في كردستان وأنحاء من الوسط لتركوا العراق خائبين. لكن الدولة العراقية تصرّ أكثر من أي وقت مضى على انسحابهم منه.
أما لجهة سوريا، فقد تحول المشروع الأمريكي من مستوى إسقاط الدولة السورية إلى قرصنة لسرقة النفط من المناطق الشرقية وتسويقه عبر تركيا، هذا إلى جانب تراجع الدور التركي الاحتلالي في شمال سوريا والذي يشكل جزءاً من الجيوبولتيك الأمريكي، على الرغم من بعض التعارضات بين الطرفين.
أما بالنسبة لليمن، فقد استطاعت “دولة صنعاء” الانتقال من الدفاع إلى الهجوم بالصواريخ والمسيرات على أهداف نفطية اقتصادية في السعودية، هي بالحقيقة أهداف أمريكية أيضاً، وتواصل تقدمها البري لاختراق حدود السعودية من جهة أعالي الجوف، حيث توجد قوات سعودية ومليشيات حزب الإصلاح الإخواني ـ التركي.
هذه المشتركات هي إذاً “مشروع أمريكي” تنفذه كل من السعودية وتركيا بأشكال مختلفة إلى جانب قوات من الناتو ومرتزقة أجانب، في ميدان ثلاثي عربي في العراق وسوريا واليمن. إلا أن هذا الثلاثي أفشل مشروع إسقاط دوله، مؤدياً إلى إسقاط مشروع “الشرق الأوسط الكبير وخنق العالم الإسلامي” ممهداً لروسيا والصين زعزعة أركان الأحادية القطبية الأمريكية.
قد يؤخر انتشار وباء “كورونا” هذا السياق؛ لكنه لن يلغيه؛ لأن الاحتكام إلى نتائج الميدان هو أقصر الطرق إلى الحرية والاستقلال.
