الجديد برس : رأي
د. عبدالغني جغمان
الأزمة المالية ضربت العالم في 2008..الإقتصاد الصيني تضرّر كغيره من اقتصادات العالم، لكن أحد لم ينجح في استثمار الأزمة للخروج بمكاسب جيوستراتيجية عملاقة مثلما فعلت الصين..البداية كانت من نقطة صغيرة جدًا..اليونان كانت الضحية الأوروبية الأكبر للأزمة المالية، ومن بين الأضرار التي لحقت بها كانت صناعة السفن..رئيس الوزراء جورج باباندريو ذهب للإتحاد الأوروبي طالبًا المساعدة لإنقاذ قطاع الشحن البحري الذي يساهم بنحو 19% من الناتج المحلي..أتي رد بروكسل بالرفض..من وافق علي مساعدة اليونان؟ الصين..بحزمة تمويل لملاك السفن بقيمة 5 مليار $..لكن بشرط بسيط..ملاك السفن اليونانيين يحتاجون أساطيل جديدة، والصين تحتاج توفير فرص عمل إضافية..ما الحل؟..تصنيع السفن اليونانية داخل الصين وبعمال صينيين وبأموال القروض الصينية..وافقت اليونان، وكسبت الصين مرتين..أولي لما أنقذت صناعة الشحن اليونانية، والثانية لما ضخّت وظائف جديدة في اقتصادها المنهك..لكن النهم الصيني لن ينتهي هنا أبدًا.
أخطاء الإتحاد الأوروبي لن تتوقّف، وأزمات اليونان لن تعرف نهاية، ومن رحم ما سبق ستتصاعد مكاسب الصين..الإتحاد الأوروبي يلزم أعضائه بألا يتجاوز عجز الميزانية 3% وإلا أجبرت بروكسل الدولة العضو علي إتباع إجراءات تقشفية قاسية..اليونان تجاوزت العجز بدرجة شاسعة وسجّلت 15% ولم يكن أمامها مفر سوي بيع أصولها لتوفير 50 مليار $..من كان حاضرًا؟ بكين لكن هذه المرة كانت ترمي لهدف أضخم..ساعدناكم في صناعة الشحن، ونستطيع فعل المثل في إدارة الموانيء..عرضت الصين تأجير 50% من الميناء اليوناني الأضخم ‘‘بيريوس‘‘ لمدة 35 عام لقاء 500 مليون $، وفي غضون عامين غيّرت الصين النصف الخاضع لها من الميناء بصورة جذرية..استثمارات بقيمة 200 مليون $ رفعت السعة الإستيعابية للميناء إلي 5 ملايين حاوية، ورفع تصنيفه من المرتبة 93 إلي 44..بينما كان النصف المملوك للحكومة اليونانية غارقًا في الركود وإضرابات العمال.
لا تبالغ في الإنجاز الصيني..هذا مجرد نصف ميناء أوروبي لا أكثر..صحيح..كان الأمر يبدو كذلك في البداية..لكن الصين فعلت ما هو أكثر..ذهبت لحكومتي المجر وصربيا، وعرضت عليهما قرضًا بقيمة 1.2 مليار $ لإنشاء خط سكة حديد بين البلدين، علي أن يكون المنفذ شركة السكك الحديدية الصينية CRG..أيضًا ما الفائدة؟ دعني أخبرك..الصين كانت تنقل بضائعها لغرب أوروبا في مسار يبدأ من الصين وصولًا قناة السويس ثم يمر عبر جبل طارق وصولًا للموانيء الأوروبية الثلاث الكبري، هامبورج وروتردام وأنتويرب..لكن بعد سيطرة الصين علي نصف ميناء بيريوس ثم إنشاء خط سكك حديد بين صربيا والمجر سوف يتغيّر ذلك المسار..من الصين لقناة السويس ثم لبيريوس ثم الشحن البري عبر القطار الواصل بين صربيا والمجر ومنها لغرب أوروبا..إذن ستحقق الصين عدّة مكاسب..أولها تقليص زمن الرحلة بأسبوعين، وثانيها وهو الأهم، تخفيض القيمة الإستراتيجية لموانيء بلجيكا وهولندا وألمانيا، والسيطرة علي جانب من خطوط الشحن الأوروبية..الطموح الصيني في اليونان سيتوقف هنا؟..لا..في 2016 سترفع الصين حصتها في ميناء بيريوس إلي 67% لقاء 1.3 مليار $، تذهب 800 منها لحكومة أثينا، والباقي لتطوير المرفأ..وهنا يُمكنك العودة إلي وثائقي الجزيرة تحت عنوان ‘‘ًصحوة التنين الصيني‘‘ وتحديدًا، الجزء السادس ‘‘حصان طروادة الصيني‘‘.
إيطاليا منكوبة حاليًا بسبب أزمة كورونا..صحيح..لكنها تعاني من نكبة اقتصادية إضافية، إذ أنها تغرق تحت وطأة مديونية ثقيلة تبلغ 2,8 تريليون $، والحل الأوروبي جاهز علي الدوام..التقشف..لكن الإئتلاف الحكومي السابق، والمكوّن من حركة النجوم الخمس الشعبوية، ورابطة الشمال اليمينية المتطرفة، استنكر الموديل العلاجي الأوروبي..إيطاليا قدّمت الكثير لحلم الوحدة الأوروبية كما يذكر مارك جلبرت في كتاب ‘‘السياسات الخارجية الأوروبية: هل ما زالت أوروبا مهمة‘‘‘، وتحديدًا الفصل الحادي عشر تحت عنوان ‘‘قطنة وقلق قوة من الدرجة الثانية‘‘..علي أرض إيطاليا صيغت أول وثيقة أوروبية طموحة للإندماج عام 1957 ‘‘وثيقة روما‘‘، وبفضل جهود مستشارها كراكسي صدر القانون الأوروبي الوحّد لعام 1985..واليوم تتخلي عنها ألمانيا وفرنسا ويطالبانها بالتقشف الحاد، بينما راكمت برلين عبر عقود أرباحًا قياسية من الوحدة الأوروبية؟ يكفي أنها تُصدر للعالم ما قيمته 1.3 تريليون $، 800 مليار منها تذهب لدول الإتحاد الأوروبي، ما يكفل فائضًا تجاريًا للألمان بقيمة 70 مليار $..من سيدخل علي خط الأزمة؟..الصين بالطبع..ستضخ شركة الكيماويات الوطنية الصينية 7,7 مليار يورو للإستحواذ علي شركة بيرللي الرائدة في صناعة الإطارات..ليس هذا فحسب.
روما سعت للخروج من ضائقتها الإقتصادية، ومن بين الحلول التي استدعتها من الخزائن المغلقة، خطة طموحة للغاية تسعي لتطوير وربط 5 موانيء، ثلاث منها إيطالية هي تريستا ورافينا وفينسيا، ورابع كرواتي هو فيومي وخامس سلوفيني هو كابودريستا..هذه الخطة المعروفة بإسم ‘‘الموانيء الخمس‘‘ تسعي لجذب السفن الصينية العملاقة عبر تقليص زمن الرحلة من شنجهاي لغرب أوروبا ب 8 أيام كاملة بعد اختصار 2400 كم من طول الرحلة المقدّر ب 11 ألف كم..كما يذكر نيكولا كاساريني في ورقته البحثية OBOR and Italy: Strengthening the Southern Route of the Maritime Silk Road..حينها شعرت الصين بالخطر..الخطة الإيطالية ذات الكلفة المقدّرة ب 2.5 مليار $ من شأنها التأثير علي الموقع الإستراتيجي لميناء بيريوس اليوناني الذي استثمرت في إنشائه أكثر من ملياري $..لا بد وأن تجد الصين موطأ قدم في الموانيء الإيطالية..لا بد من نقطة بداية..والحل أتي في مارس 2019 في خطوة هزّت العالم..إيطاليا تنضم إلي مشروع الحزام والطريق الصيني المعروف شعبيًا بطريق الحرير الجديد، بعد توقيع اتفاقات مع الصين بقيمة 2.9 مليار $ والأهم أنها أمّنت للصين حق النفاذ لإثنين من الموانيء الإيطالية..تريستا وجنوة.
عام 2016 هزّت الصين العالم بأسره عندما أعلنت أضخم مبادرة للربط البري والبحري بين إفريقيا وآسيا وأوروبا، وهي مبادرة الحزام والطريق، عبر مجموعة من المسارات البرية والبحرية..البروباجندا الصينية بالطبع كان تدور حول تعزيز الروابط بين العالم وتسريع نقل البضائع..لكن الهدف الحقيقي كان السيطرة المطلقة علي خطوط الشحن البرية والبحرية والإمساك بخناق الإنتاج والتموين والإمداد..الصين نجحت بسهولة بالغة في اختراق إفريقيا وآسيا لقاء الإغراق بالقروض وحال العجز يتم المصادرة والمثال الأبرز هنا هو ميناء هامبنوتنا السيرلانكي الذي استولت الصين علي حق إدارته لمدة 99 عامًا لقاء 1.2 مليار $ بعد فشل حكومة الرئيس المعادي للصين مايتريبالا سيرسينا في الوفاء بالديون الصينية التي اقترضها سلفه راهبندا راجباسكا في موعدها المُحدد، وبالطبع الحة الإفريقية الأبرز هي ميناء مومباسا الكيني..لكن أوروبا ظلّت عصية علي الصين..ومن فتح لها المدخل كان فشل آليات التضامن الأوروبي في إنقاذ اليونان، وإحتواء الأزمة الإيطالية، بفعل التسلط الألماني-الفرنسي..وحين تخلّت بروكسل عن أثينا وروما..كانت الصين حاضرة..بخطوات صغيرة في البداية أثبتت نوايا التعاون المشترك الذي يعود بالفائدة علي الطرفين..وحينما انفتحت الأبواب هجمت الصين بضراوة، وضمّت عضوين أوروبيين لمشروعها العملاق..وليس أي دولتين..بل منفذين بحريين يخدمان مصالح مشروع الحزام والطريق..اليونان وإيطاليا.
قبل أيام كتب ماوريسيو ماساري، سفير إيطاليا في الإتحاد الأوروبي، إلي مجلة بوليتيكو يوروب – وهنا يُمكنك مراجعة تقرير China is winning the coronavirus propaganda war – قائلًا ‘‘للأسف لم تستجب دولة أوروبية واحدة لنداء المفوضية بمساعدتنا، فقط الصين هي من استجاب، هذا ليس جيدًا للتضامن الأوروبي‘‘..بالفعل أثبت التضامن الأوروبي هشاشته البالغة..الإتحاد الأوروبي حلم لطيف يمكن تسويقه بصورة عن الحدود الوهمية بين بلجيكا وهولندا، عن إمكانية التنقل بين 27 دولة بالقطار، عن كتلة اقتصادية عملاقة بقيمة 18,8 تريليون $..لكن وقت الأزمات لا يكون حاضرًا..أزمة اللاجئين أنموذجًا..ألمانيا دعت 1,2 مليون لاجيء للدخول لأوروبا، رفضت باقي أقطار القارة استيعابهم، وبالأخص شرق أوروبا بقيادة المجر، ثم أدارت ألمانيا ظهرها لدولتي الإستقبال الشاطئي اليونان وإيطاليا، فتكدس 50 ألفًا من اللاجئين بدون أمل للعبور في أثينا واستقبلت إيطاليا 300 ألفًا دون رغبة أوروبية في تقاسمهم..ثم أزمة كورونا..إيطاليا تشهد إصابات ووفيات قياسية ومنظومة الإتحاد عاجزة عن مساعدتها..فقط الصين التي أرسلت أطنانًا من المساعدات الدوائية وفرقًا طبية، وليس لإيطاليا فحسب، بل أرسلت طائرات مساعدات لليونان، ثم 300 ألف ماسك لبلجيكا، ثم إسبانيا وهنا استغلت الصين الخط الأطول للسكك الحديد في العالم الذي يبلغ طوله 13 ألف كم، ويربط بين مديتني يووو الصينية ومدريد الإسبانية لنقل مساعدات طبيبة، حتي صربيا التي تسعي للإنضمام للإتحاد الأوروبي، خرج رئيسها ألكسندر فوشيش متذمرًا من غياب التضامن الأوروبي، وطالبًا العون من الصين، فتلقاه.
الصين هنا تبعث برسالة أكبر بكثير من المساعدات..رسالة أولي..اليونان وإيطاليا عضوان في الإتحاد الأوروبي، وهما كذلك موطن نفوذ صيني، لكن الروابط بينهما وبين بروكسل اقتصادية فقط، ولم تمتد للجانب الإنساني وقت الأزمة، أما الصين فتستفيد منك اقتصاديًا وتدعمك وقت أن يتخلي عنك شركاؤك..الرسالة الثانية لباقي الدول الأعضاء ممن لم يلتحقوا بالحلم الصيني في مشروع الحزام والطريق..حتي إن كنت متحفظًا علي توسيع نفوذنا في بلادك، سنأتي لمساعدتك بمجرد الطلب، في الوقت الذي سينكفيء فيه أقرانك الأوروبيين الأثرياء علي ذواتهم..حينما تراجع الإتحاد الأوروبي خطوة للوراء في أزمة الديون اليونانية، تقدّمت الصين خطوتين للأمام، وعندما تركت بروكسل الساحة الإيطالية خالية من الدعم في أزمة المديونية، قفزت الصين لملأ الفراغ..وفي الوقت الذي تضمر فيه آليات التعاون الأوروبي في مواجهة كورونا، ستزدهر المساعدات الصينية للدول المأزومة..دون السعي خلف نتائج مباشرة..فقط الإنتظار لقطف الثمار..يومًا ما وقف مؤسس النهضة الصينية دينج شياو بينج مخاطبًا أعضاء اللجنة المركزية في الحزب الشيوعي قائلًا ‘‘ راقب بحذر، تمسَّك بالأرض التي تقف عليها، كن هادئًا، من السيئ بشدة أن تفقد الصبر، كن هادئًا من جديد، وحينما تسنح الفرصة، يجب أن ننقض لتحقيق شيء كبير لأنفسنا؛ للصين‘‘..وبعد إنحسار الوباء في أوروبا، ستنقض الصين كما تفعل دائمًا، وستحصد المزيد من المكاسب الجيوستراتيجية، من دول متعاونة بالفعل مثل اليونان وإيطاليا، ستفتح أسواقها أكثر، وأخري متردّدة ستجد في الصين شريكًا يعوّل عليه أكثر من دعاية الإتحاد الأوروبي.
الصين تُعاني من أزمة علاقات عامة بالغة التعقيد..هي في نظر العالم النموذج الشمولي الذي سحق إعتصام مئات ألوف المطالبين بالتغيير في ساحة الميدان السماوي عام 1989، وهي التي عاقبت أبناء طائفة الفالون جونج الدينية غداة تظاهراتهم عام 1999 أمام مقر الحزب الشيوعي، بالملاحقة والإضطهاد، حتي قتلت منهم 4000 في آخر عشرين عام وألقت بقاداتهم للمنافي..الصين هي أول Digital Dictatorship، إذ تراقب نصف مليار كاميرا كل خطوات مواطنيها، وتكافئهم وتعاقبهم بالنقاط، وأخيرًا الصين تحتحجز مليونًا من أبناء الإيجور في معسكرات اعتقال تُعيد للأذهان معسكرات الإعتقال الإسبانية التي أنشاها الجنرال فاليريانو ويلر لقمع التمرد الكوبي عام 1896 وقُتل فيها زهاء 400 ألف، ومعسكرات الإعتقال البريطانية التي دشّنها اللورد كتشنر في جنوب إفريقيا لقمع أسر مقاتلي البوير من ذوي الأصول الهولندية في بلومفونتان وبريتوريا وبورت إليزابيث، ومعسكرات الإعتقال الإنجليزية أيضًا بحق ثوار الماو ماو في كينيا عام 1958 التي قُتل فيها 50 ألفًا..الصين في نظر العالم ثاني أكبر اقتصاد كوكبي، لا شك، لكنها كذلك، مصنع قمعي، رخيص القيمة، في الإنتاج، والكرامة الإنسانية..الصين أرادت تغيير صورتها النمطية في العالم، واستثمرت في ذلك مليارات الدولارات، سواء بإنشاء قنوات صينية لمخاطبة العالم مثل CGTN أو الخطوة الأهم التي بدأت عام 2007.
وقتها شرعت الصين في تمويل إنشاء 207 معهد لتعليم اللغة والثقافة الصينية في العالم ‘‘معاهد كونفوشيوس‘‘، وبالفعل حقّقت بعض الإختراقات رصدها وثائقي فرنسي ممتاز أذيع مترجمًا قبل عامين علي قناة العربية بعنوان ‘‘الجواسيس الحمر‘‘..بعض مدارس لندن بدأت تعليم الصينية كلغة اختيارية ثانية، شيكاجو الأميركية أبدت رغبتها في التحول لقبلة تعلم الصينية في الولايات المتحدة، 160 ألف طالب في كوريا الجنوبية بدأوا في تعلُم الماندرينية، وحينما اعتقدت الصين أنها تخطو الخطوة الأولي الصحيحة في بناء قوتها الناعمة، أصيبت بضربة قاتلة، عندما انفضحت أهداف تلك المراكز الثقافية بتجسسها علي المعارضين الصينيين في الخارج، والمثال الأبرز هو كندا، التي خرجت فيها تظاهرات مندّدة بالوجود الحكومي الثقافي الصيني الذي يستهدف طائفة الفالون جونج، وتجنيد مواطنين كنديين للتجسس لصالح الصين، وكبرت كرة الثلج وصولًا للبرلمان الذي عقد جلسة استماع حضرها ميشال جونو كاتسويا، المدير السابق للمكتب الكندي للإستخبارات والأمن في آسيا والمحيط الهادي، والذي حذر من نفوذ الصين التجسسي عبر البوابة الثقافية، ما دفع بعض أفرع المعهد لإغلاق أبوابها..حتي عندما أرادت الصين تجميل صورتها..قبّحتها بصورة إضافية.
علي مدي ال 15 عامًا الفائتة قطعت الصين خطوات ضئيلة للغاية في بناء أنموذج للقوة الناعمة لتنافس الوجود الأميركي الساحق، إذا ما احتكمنا في القياس إلي المصادر الثلاث الأساسية لتلك القوة كما يُعرّفها جوزيف ناي الإبن في ص.110 من كتابه ‘‘مستقبل القوة‘‘..الثقافة الصينية: التي لا تحظي بإنتشار عالمي واسع رغم إنفاق المليارات، والقيم السياسية: التي تنطوي علي حكم الحزب الأوحد والملاحقة السياسية والرقابة الإلكترونية، والسياسة الخارجية: حيث تحجم الصين – بإرادتها – عن القيام بأدوار عسكرية أو دبلوماسية..لكنها في أزمة الوباء حوّلت مواطن هزيمتها لنقاط انتصارها..الرقابة الإلكترونية بحق المواطنين، تحوّلت لمعيار في مكافحة الوباء بترصد المخالطين، والدبلوماسية العاجزة تحوّلت لنشطة بمساعدات سخيّة للدول العاجزة عن احتواء الإنتشار، والنموذج الشمولي القاسي هو الذي – كما أنتج الوباء – نجح في إدارة الأزمة التي تغرق فيها الدول الديمقراطية، وبعد أن كانت الصين محط احتجاج عالمي قبل أشهر لقمعها الساحق للإيجور، تحوّلت دفّة الحديث إلي نجاحها في مكافحة كورونا..وهنا المكسب الصيني الأكبر، وكذا الخسارة العالمية الأكثر فداحة..أن تصبح الصين – في ظل صعود اليمين المتطرف والشعبوي في غرب أوروبا والولايات المتحدة فضلًا عن الديكتاتوريات الملكية والعسكرية في دول العالم الثالث – أنموذجًا لمقايضة الحريات السياسية بالحريات الإقتصادية..وهو ما يبدو أنه مرشح للصعود في الفترة المقبلة..الصين بالقمع تنجح، حينما يفشل الغرب بأدواته الديمقراطية.
الخطورة لا تكمن فقط في تعزيز سمعة الصين، بل موقع المحور الذي تقوده في مساعيها لإعادة تشكيل النظام العالمي، أي المحور الصيني-الروسي..العلاقات بين الدولتين بلغت ذروتها في عهد ستالين- ماو، لكنها انقلبت لعداء استراتيجي عند وصول خروتشوف لهرم القيادة في موسكو، وتصاعد التوتر إلي حد الصدام العسكري عام 1969 بين البلدين علي إثر خلاف بشأن جزيرة دامانسكي في نهر إيشوري، وهو الخلاف الذي استدعي صناع القرار العسكري السوفياتي للتفكير في استهداف الصين بالسلاح النووي علي نحو موسّع، ما استدعي تطوير الصين قذائف DF-4 و DF-5، ثم نشر أسلحة استراتيجية في الشمال الغربي ليكون بمقدورها استهداف العمق السوفياتي حال التعرض لضربة أولي..وهنا يُمكنك العودة إلي ص.ص 88-90 من الفصل السادس ‘‘معضلات أمنية متداخلة ورؤية الصين للقوي النووية الأخري‘‘، من الكتاب الصادر عن مؤسسة راند تحت عنوان ‘‘ تطوير قوي الردع النووي في الصين‘‘..ظلّت العلاقات في مستوي سيء حتي انهيار الاتحاد السوفياتي..ما الذي دفع لتحسنها بعد ذلك؟ التهديد الأميركي..روسيا الجديدة التي تعرّضت مقاربتها الأمنية لإنهيار مروع بتوسيع حلف الناتو، ثم تفكيك أحد أخص فضاءاتها الحيوية وهي جمهورية يوجوسلافيا، التي تجمعها بروسيا الوشائج السلافية-الأثوذكسية، والصين المُحاصرة والمُهددة وحدتها في تايوان تحديدًا، وفقًا لمبدأ ‘‘دولة واحدة ونظامان‘‘، وذلك عندما بدأت الصين إجراء تدريبات عسكرية في المياه الإقليمية، مُطلقة حمم صواريخها لتعبر سماء تايوان، فردّت واشنطن بإرسال حاملة طائرات من طراز نيمتز لتعبر مضيق تايوان للمرة الأولي منذ تطبيع العلاقات مع الصين، وبدأت بذلك أزمة مضيق تايوان 1995 والتي وضعت الصين وأميركا علي حافة المواجهة العسكرية المباشرة لأول مرة منذ انتهاء الحرب الكورية 1950-1953.
التهديد الأميركي جمع الخصمين الروسي-الصيني..انخرطا في مفاوضات مزدوجة لترسيم الحدود المتنازع عليها، والخفض التدريجي للوجود العسكري في المناطق الحدودية، واعترفت روسيا بسيادة الصين علي تايوان في مقابل اعتراف الصين بمحلية المسألة الشيشانية..تخفيف التوتر العسكري الحدودي ساعد موسكو علي نقل جانب من قواتها إلي الحدود الغربية لمواجهة توسع الناتو، في حين أعادت بكين نشر قواتها تجاه بحر الصين الجنوبي ومضيق تايوان للتعامل مع أي تصعيد أميركي محتمل..ثم تعزّز التعاون بعد العقوبات الإقتصادية والعسكرية الأميركية علي الصين بعد مجزرة الميدان السماوي، في الوقت الذي كانت موسكو علي شفا الإفلاس عام 1998..وجدت كل من بكين وموسكو ضالتهما في الشراكة المتبادلة..الصين ترزح تحت وطأة حصار عسكري أميركي، وترغب في تعويضه بالتقانة العسكرية الروسية وهو ما تحقّق بصفقة أسلحة بمليارات الدولارات عام 1993 في زيارة الرئيس الصيني جيانج زيمين إلي موسكو، وروسيا ترغب في تخطي ضائقتها المالية، فتحصّلت علي 540 مليون $ من المساعدات الصينية..كما يذكر فيديا ناكراني في كتابه الصادر عن مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية تحت عنوان ‘‘الشراكات الاستراتيجية في آسيا: توازنات بلا تحالفات‘‘، تحديدًا الفصل الثالث ‘‘الشراكة الروسية-الصينية‘‘، ص-ص 93-145.
الولايات المتحدة دفعت الصين وروسيا إلي بناء تحالف أولي حيث تتماثل تصورات دولتين عن طبيعة التهديدات والمصالح المشتركة أو ما يُعرفه هيونج فانج ب A Threat-Interest Model of Partnership..لكن بعد ذلك تحركت بكين وموسكو بدوافع أكبر من مجرد درء الخطر الأميركي، إلي بناء تحالف استراتيجي في وجه النموذج الغربي برمته، وهذا الدافع بدوره قاد لتعميق التعاون في شتي أوجهه..الاقتصاد..ارتفع التبادل التجاري بوتيرة قياسية من 4 مليار $ عام 1995 إلي 100 مليار $ عام 2018، ولعبت الطاقة الدور الأساسي في دفعه، بعد ثمان محاولات مجهضة لتصدير الغاز الروسي خلال الفترة بين عامي 2004-2013 بفعل خلاف حول السعر، لتُتوج بصفقة قياسية لنقل الغاز الروسي للصين بقيمة 400 مليار $..الجيوبوليتيك..وقعت الدولتان اتفاق صداقة وحسن جوار، ثم انخرطتا في إطار مؤسساتي هو منظمة شنجهاي، ثم صاغتا وثيقة مشتركة لرؤيتهما للنظام العالمي في القرن العشرين، تبع ذلك التعاون العسكري بإطلاق تدريبات مشتركة في بحر البلطيق والبحر الأسود والمتوسط والمحيط الهادي وخليج بطرس الأكبر وسواحل بريمورسكي كراي، وصولًا إلي أفضل نقطة ممكنة في العلاقات الثنائية بتوقيع اتفاق ‘‘الشراكة الاستراتيجية الكاملة‘‘ عام 2010، وهنا يُمكن قراءة كتاب فرقاني فتيحة الصادر عن كلية الحقوق والعلوم السياسية بجامعة بومرداس تحت عنوان ‘‘ راهن العلاقات الصينية-الروسية: بين الشراكة الاستراتيجية واحتمالات التحالف العسكري‘‘
روسيا سارت علي نفس الخطي الصينية في أزمة كورونا..8 فرق طبية عسكرية أعلن وزير الدفاع الروسي سيرجي شويجو إرسالها لإيطاليا، وسط تأكيد روسي رسمي علي إمكانية توسيع المساعدات لباقي الدول المنكوبة..روسيا تخترق أوروبا مثلما تفعل الصين، لكن الأهداف جد مختلفة..إذا كانت بكين تسعي للسيطرة علي خطوط الشحن وتوسيع استثماراتها لإعادة صياغة الجغرافيا السياسية، فإن روسيا تهدف لتوسيع نفوذها السياسي، وذراعها هنا هو أحزاب اليمين المتطرف الأوروبي..سواء في النمسا عبر حزب الحرية اليميني المتطرف، الذي خرج من السلطة قبل أشهر بفضيحة اقتصادية مدوّية ربطت بين رئيسه هاينز كريستيان شتراخه وحسناء روسية فاحشة الثراء، وكذلك ماتيو سالفيني زعيم رابطة الشمال الإيطالية، الخارج مؤخرًا من الإئتلاف الحكومي، وحزب البديل الألماني، وبالتأكيد حزب الجبهة الوطنية الفرنسي، الذي حصل علي دعم سخي من موسكو بقيمة ١١ مليون يورو، ابتداءً من سبتمبر 2014، عبر قرض من البنك الروسي-التشيكي FCRB ثم مليونين من أحد الصناديق الروسية الخاصة في قبرص، فضلًا عن دعم افتراضي بزيادة متابعي رئيسة الحزب الفرنسي مارين لوبان، قبيل الإستحقاق الرئاسي 2017، قدّمته الحسناء الروسية المقرّبة من الكريملن، ماريا كاتسنوفا..ومن شأن الدعم الطبي الروسي لدول الإتحاد الأوروبي في جائحة كورونا أن يُعزّز بدوره البروباجندا اليمينية المتطرفة الداعمة لموسكو، وكذلك الرأي العام الذي ينظر إليها كخطر استراتيجي أزلي..في الأخير..سيكون الوضع كالتالي..الصين وروسيا يمدان يد المساعدة لأوروبا حين يغيب التضامن الأوروبي ذاته، ومن بعده الولايات المتحدة التي سارعت لإغلاق أجوائها أمام الأوروبيين، بعد أن أدار رئيسها ترامب الأزمة بأسوأ صورة ممكنة..إنكار في البداية، ثم استفحال الإنتشار، ثم طواريء وطنية لم يسبق لها مثيل منذ الحرب العالمية الثانية، وتريليون $ مخصصات فيدرالية لمكافحة الآثار الفادحة المتوقعة..فلا أميركا قدّمت نموذجًا عالميًا في التعامل مع الجائحة، ولا هي حافظت علي فضائها الإستراتيجي الحيوي في أوروبا كمنقذ أول، كما كانت منذ الحرب العالمية الثانية، فخسر المحور الغربي بروكسل – واشنطن بأكمله، دعائيًا، في مواجهة المحور الصيني-الروسي
الصين لم تتآمر لنشر الفيروس..هذا أمر مؤكّد..الصين لم تصنع الفيروس معمليًا..هذا أمر آخر يُمكن الجزم به..الصين ستتضّرر اقتصاديًا واستراتيجيًا بشكل بالغ في المدي القصير، هذا مما يُمكن توقعه بسهولة، سواء علي صعيد التوظيف بخسارة 4.6 مليون وظيفة في شهري يناير وفبراير من العام الحالي، أو تضرر سلسلة الإمدادت حال دخول الإقتصاد العالمي دائرة الركود، خصوصًا مع اعتماد الإقتصاد الصيني كليةّ علي الصادرات التي تبلغ بحسب إحصاءات 2018 قرابة 2.4 تريليون $، أو حتي بتأثر نقاط الإتصال علي طول خطوط الحزام والطريق..لكن علي المدي المتوسط والطويل، وبعد إنحسار الوباء عالميًا، وحال ما نجحت في منع إنتشاره علي أراضيها مُجددًا، ستغدو الصين الفائز الأول من جائحة كورونا..قيمها السياسية ستصبح محل إعجاب أكبر، نفوذها الإقتصادي والجيوبوليتكي في أوروبا، نقطة اختراقها المثالية للعالم الغربي، سيتعاظم..والمكانة الإستراتيجية لمحورها مع موسكو ستتعزّز في مواجهة المحور الأطلسي..ومن رحم كل ذلك..لن يعود عالم ما بعد كورونا، كما كان من قبله، لن تقفز الصين لمكانة القيادة العالمية بالتأكيد، لكنها ستقلص المتبقي أمامها من أزمان، قبل إزاحة الولايات المتحدة، ومعها تُعلن ميلاد نظام عالمي جديد.