الجديد برس : رأي
إسحاق المساوى
في بشاعة مشهد اليوم ما يكفي الشعب اليمني قروناً من الحقد على قيادة المملكة السعودية، دون الحاجة حتى إلى استدعاء التاريخ لحشو ذاكرته المتخمة بالمزيد، لكنه يبدو استدعاء اضطراريا؛ لتكملة الأجزاء المفقودة عن لغز الحاضر المشبع برائحة الدم والأشلاء، وعلامة استفهام بحجم الجزيرة العربية، لفهم دوافع العدوان: هل حقاً يعني شيئاً من المبررات المستهلكة حول إيران والشرعية والانقلاب، أم أنه في حسابات الزمن أبعد من عمر الدولة السعودية الثالثة، وأطول من مقاسات خصوماتها وأحقادها؟
الأسبوع الفائت، أحيت اليمن الذكرى المائة لجرحها الغائر، في مجزرة (تنومة) التي قتل فيها السعوديون ثلاثة آلاف حاج يمني كانوا في طريقهم إلى بيت الله الحرام عام 1923م، والمجزرة في بشاعتها وفضاعتها تعد من أبرز نقاط التحول التاريخية في علاقة اليمن بالسعودية، لكنها ليست نقطة البداية من منظور تاريخي أيضاً، فقد سبق هذه المجزرة محطات أخرى من الصراع تمتد جذورها إلى عهد الدولة السعودية الأولى (إمارة الدرعية) بقيادة قطبيها السياسي ممثلاً بمحمد بن سعود، والديني ممثلاً بمحمد بن عبدالوهاب.
الشرارة الأولى
بصورة أقرب، فإن جذور الصراع متصلة ببداية تأسيس إمارة الدرعية عام 1744م، التي تمكنت من تطويع وإلغاء قبائل ومشيخات وحكام الجزيرة العربية لصالح الدولة الوليدة، باستثناء اليمن، المعركة المؤجلة في ظل توسع يحاذي حدودها ولا يتجاوزها مطلقاً، للسبب الذي يذكره محمد بن عبدالوهاب: “نحن لا نحب حربهم اليوم”.
يعود تاريخ هذه التقية الوهابية، إلى عام 1763م -بعد عقدين من تأسيس إمارتهم-وهو العام الذي شهد الفتيل الأول لصراع وعدوان إمارة الدرعية على اليمن في لحظة نزق عسكرية أصابت قائد الجيش حينها عبدالعزيز بن محمد بن سعود، حين هجم على قبيلة العجمان في أطراف الحجاز
بأربعة آلاف محارب “وقتل منهم مقتلة عظيمة وأسر لهم ثلاثمائة رجل واقتادهم الى الدرعية.
ولأنهم قوم “فساد وشقاق” -على رأي قائد الجيش- فقد “همّ قتل الأسرى وقطع دابرهم” لولا تدخل محمد بن عبدالوهاب مأخوذاً بمخاوفه من ردة الفعل: “أولئك من يام، وهي طائفة كبيرة، تسكن اليمن من بلاد نجران، بداةً وحضراً، ونحن لا نحب حربهم اليوم”.
في حقيقة الأمر، لم يكن قرار الحرب متعلقاً بمشاعر المحبة من عدمها، بل كان مكبلاً بالخوف من خطأ عسكري كاد يودي بمستقبل الإمارة الوليدة التي تمثل الغطاء السياسي (للمذهب الوليد) قبل بلوغ أهدافهما التي كانت اليمن ضمنها على المدى البعيد.
وفعلاً، وقعت الدرعية بمحاذير محمد بن عبدالوهاب، فقد استنصر العجمان بيام وعادوا معززين بألف مقاتل يتقدمهم الحسن بن هبة الله المكرمي، تخطوا مئات الأميال حتى وصلوا منطقة تدعى أرض العارض، فكان باستقبالهم 4000 آلاف مقاتل، بقيادة عبدالعزيز، ووصايا محمد ابن عبدالوهاب: سِر إلى اليامي بخلق، ونازله، ولا تحاربه، حتى يقع بيننا الصلح، فإني لا أرى خيراً في القتال مع هؤلاء القوم”.
وهنا يبدو الرجل متجرداً عن شخصيته الدينية الصارمة ومضامين التحشد الجهادية، لا لشيء، سوى أن المعركة كانت أكثر صرامة في القضاء عليه.
إذ يؤكد في وصيته لقائد الجيش: “ما تقول في أناس مسكنهم اليمن، ويدخلون لبّ نجد في هذا العدد القليل مع أنهم عرفوا شوكتنا ولم يبالوا بها؟ فإياك والحرب معهم، وإنما أمرتك بالخروج إليه، أتعرف الغاية؟” قال عبد العزيز: “لا” فرد عليه: “ليكون إظهار حياة لديه، ولأجل ألا تختلف جماعتنا علينا، بأن يقولوا قد ضعف أمر هذا الدين ولقد هابوا الحرب مع رجل ياميّ”.
لكن “يامي” تخطى منطقة القتال في أرض العارض وأحاط مع جنده بأسوار الدرعية، فكاد يدخلها فاتحاً، لولا احتماء أميرها بنسائه وقيم اليمني. “فقد أرسل محمد ابن سعود بأمر محمد بن عبد الوهاب بعض أولاده – غير عبد العزيز – وبعض نساء من أهل بيتهم، ومائة وعشرين فرساً للمكرمي، وكتب كتاباً يلتمس فيه الصلح”.
انتهت المعركة على الأرض، بحصيلة 500 قتيلاً من جنود الدرعية ومئات الأسرى الذين تم مبادلتهم بأسرى العجمان، فعاد اليامي إلى نجران قائلاً “الآن طابت نفسي” بالمقابل لم تكن للطيبة سبيلاً إلى نفوس قادة الدرعية، فالإمارة العصية على قبائل الجزيرة، اختبأت عضلاتها خلف جلابيب النساء، وترسخ يقينها الخاطئ بعدمية المستقبل إذا لم تخضع اليمن لحكمهم أو نفوذهم.
بالمجمل فإن هذه المعركة بتفاصيلها الدقيقة، قد أعطت تصوراً كاملاً عن استراتيجية السعودية تجاه اليمن، سياسياً، وعسكرياً واجتماعياً، ودينياً، وكشفت النقاب عن العدوان المبيت بقول محمد بن عبدالوهاب: “لا نحب حربهم الآن”.
وبالعودة إلى #الذكرى100لمجزرة_تنومة فإنها تمثل محطة تاريخية فارقة في الصراع السعودي اليمني، إلا أنها ليست المحطة الأولى -كما يفهم البعض- للصراع؛ ولم ترتكب مجزرة تنومة لمجرد الرغبة في الجرم، بل لها اتصال وثيق بالمشروع الأول، الذي تمكنت الدولة السعودية الثالثة من تنفيذه. بالتالي فإن جذور الصراع وإحياء محطاته في ذاكرة الأجيال؛ ينبغي أن يبدأ من العام 1763م، فهنا كانت البداية التي أسند إليها حكام السعودية مبررات تنومة 1923م، وحرب 1934م، و2009م، و2015، عوضاً عن حروبهم التي لم نرَ نيرانها ودخانها، فهي قرون من الحقد لا قرناً، ومبدأ أعرابي خبيث: بقاؤنا بزوالهم.
وبما أن التاريخ يعيد نفسه، فقد يعود اليمني لتطويق “الدرعية” ثانية ويبقى السؤال: هل سيكتفي “بطبية نفسه” ويتراجع بمجرد احتماء آل سعود بنسائهم؟.
*صحفي يمني