الجديد برس : رأي
إسحاق المساوى
لأسباب ما، خلت الساحة الملكية في السعودية لقائد وحيد، فرموز الجيل الأول والثاني من الأسرة -التي لم تعد صالحة بمنظور محمد بن سلمان- تمت الإطاحة بها كلياً وتهميشها وإذلالها، وإن أظهرت لنا الكاميرا ذات يوم، انحناء الأمير المتهور لتقبيل ركبة محمد بن نايف على هامش الانقلاب الناعم الذي استبدل أحلام الملك الوشيكة، بأحلام سعيدة!.
وكأن سراباً يحسبه الظمآن ملكاً، خرج بن نايف من قائمة التتويج والحسابات الأميرية والسياسية بكلها في ساعات الفجر الأخيرة من منتصف أغسطس 2017م حين قرر الديوان الملكي فجأة عزله عن منصب ولي عهد المملكة السعودية، بعد حياة حافلة بالعطاء في دوائر الاستخبارات الأمريكية ومهامها القذرة في السعودية والمنطقة، لتشفع له في مثل هذا اليوم الذي لم يكن به شفيعاً ولا نصيراً غير الصمت والصمت وحده.
لكن بن نايف الذي بلع لسانه لأعوام ثلاثة ولا يزال قيد الإقامة الجبرية، ظهر في الساحة الأمريكية على ناقته المعروفة بسعد الجبري -أحد أذرعته الطويلة- متوعداً بالكشف عن خبايا وأسرار السياسة السعودية لعقود مشبوهة ومغلولة بالوصاية. فما أهمية ودلائل هذا الظهور لدى المخابرات الأمريكية أولاً وثانياً، وبن نايف ثالثاً؟
لا يبدو واضحاً للعيان أن المخابرات الأمريكية شرعت بأي من خطوات إعادة أداتها القديمة، بدلاً عن أداتها الجديدة ممثلة بمحمد بن سلمان؛ فالأمير المتهور الذي قال لقناة سي بي إس “لن يوقفني عن الحكم إلا الموت” هو في تقييم CIA و FBI رجل المرحلة النادر لمواجهة تهديدات نفوذ وهيمنة الولايات المتحدة الأمريكية في الشرق الأوسط، وصاحب التسهيلات الكبيرة لطموح إسرائيل في تطبيع العلاقات مع الأنظمة العربية، إذ يصعب حالياً صناعة بدائل عن بن سلمان بمواصفات ومقاييس الثور الهائج في الظرف الراهن للمنطقة وهي تخلع رداء أمريكا شيئاً فشيئاً.
كما لا يبدو واضحاً للعيان أيضاً، ما إذا كان محمد بن نايف يتحالف مع أعضاء الأسرة لتبني معارضة فعلية جديدة من الداخل، لكن الجلي أن الساحة في الوقت الراهن تخلو للأمير المتهور، دون معارض شجاع لمواجهة التهديد والضغوطات والإجبار القسري لمغادرة الحلم بالسلطة، التي وإن لم تجد نفعاً فالخيارات متاحة وإن يكن الريتس كارلتون بنسخته الحديثة أحدها، في حين أن بن نايف لا يبدو خياراً أفضل للأسرة المالكة، ولا يحظى بإجماعها على أقل تقدير، وهذه الأخيرة سلبت كل عوامل القوة، العسكرية، والدينية، والمالية، والسياسية.
أما في سياق التحركات الأخيرة لسعد الجبري انطلاقاً من مقر إقامته في كندا، فإن أهميتها تكمن في مسمى المناصب التي شغلها كوزير الدولة السعودي، والمسؤول الأول لبن نايف في ملف مكافحة الإرهاب المشبوه، هذا من جهة. وما قد يترتب على مخزون المعلومات التي بحوزته من تصفية الحسابات بين الجمهوريين والديمقراطيين في أمريكا، يليهم الخليجيون المتناحرون كقطر وعمان، مقابل دول المقاطعة السعودية والإمارات ومسلوبة الإرادة البحرين، من جهة أخرى.
وسط هذه المعمعة من الصراعات السياسية الخليجية، وحتى لا تفقد حيويتها، صنعت المخابرات الأمريكية مناسبة جديدة لها لا تخلو من ابتزاز، بعد أن خفت ضجيج الأولى “خاشقجي” وصار لزاماً أن تتوارى خلف إمدادات النفط والكسب النقدي، وبين هذا وذاك، يغيب اسم بن نايف وتضيع أحلام لطالما منحته شعوراً بزهو “جلالة الملك”.
ولا يبدو أن الرجل قد خسر أحلامه وحسب، فقد خسر سمعته أيضاً، بحملات إعلامية حكومية عَزَت إعفاءه من منصب ولي العهد بتعاطي المخدرات، ويتوالى مسلسل الخسائر إلى أضعف حالاته التي كشفت أن ذات الرجل بات لا يملك من عوامل القوة شيئاً سوى “سعد الجبري” وأن الشكوك بسطوة بن سلمان المطلقة عليه، باتت اليوم يقيناً.
الجبري وإن أظهر ضعف بن نايف كونه لا يملك من أوراق الضغط لاستعادة مركزه غير معلومات عن خبايا صناعة القرار، والتي إن خرجت للعلن فستفضحه أولاً، على أن تأثيرها قد يحدث قلقاً لا تغييراً في الديوان الملكي؛ فإن الجبري ذاته استثمر قربه من بن نايف في صناعة البطولة لنفسه، ونسي أنه موفد لإنقاذه أولاً، من الإقامة الجبرية والقيود التي كبلته وأودعته للنسيان.
حتى الآن لا توجد معلومات دقيقة تؤكد أن بن نايف خسر ورقته الأخيرة (الجبري) إلى جانب أحلامه وسمعته وسلطته، لكن المؤكد أن الجبري لا يقدح من رأسه إلا بالقدر المسموح به من المخابرات الأمريكية، وبما يتناسب مع الدور الجديد الذي فصلته لبن نايف على مقاس مصالحها، مجرد فزاعة أمام بن سلمان ليبقى طيعاً ومستعداً للالتواء بساق أمريكا في كل الظروف.
يخسر بن نايف، لأن رضى الإدارة الأمريكية كان رصيده الوحيد من الكسب، وسيخسر من بعده الملك وولي العهد، لأن أمريكا تخسر نفوذها في المنطقة، مع تلاحق الضربات الموجعة ضد أدواتها وأجراء أجرائها على يد القوى المناهضة للهيمنة، وبما أن منشأ الصراع القائم في البلاط الملكي السعودي، ومنطلقاته، خارج إطار الهوية العربية والإسلامية، وفي مواجهتها أساساً، فمن المتوقع أن يكون متداعياً الآن، وآيلاً للسقوط في قادم الأيام.
هكذا يراد للدولة السعودية الثالثة أن تختم مشوارها على نحو شبيه بحقبتها الثانية، فالمقدمات المتشابهة تفضي إلى نتائج متشابهة، ولا شك أن سنن الله في طواغيت الأرض تتلاقى في الخواتيم وإن اختلفت البدايات.
نقلا عن موقع المسيرة نت