الجديد برس : رأي
مينسك آذار 1898، في شقّة العامل روميانتسيف في الخطوط الحديدية البلاروسيّة، يجتمعُ حفلٌ صغير للاحتفال بزواجه الحديث… هذا هو الغرض الظاهري للاجتماع. ولكن في حقيقة الأمر، كان المؤتمر الأول لحزب العمّال الاشتراكي الديموقراطي الروسي قد عُقد، معلناً بذلك تأسيس أحد أهم أحزاب الاشتراكية المعاصرة وأكثرها راديكاليةً وثورية. الحزب الذي من شأنه تغيير الخريطة العالمية للقرن العشرين. تسعة أشخاص من تسعة تيارات التقت على الماركسية، اجتمعت وائتلفت معاً لتشكّل القوّة الكبرى التي لا تُقهر للحزب العمّالي الجديد، ولترسم مستقبل الحركة العمّالية الوليدة ولتقودها، لا بل لتخلقها! نعم، هكذا كانت تُخلق الأحزاب الشيوعية والعمّالية في حينها، على أساس الوحدة والاجتماع والتمركز وتسخير القوى والاتحاد في سبيل القضيّة الجبارة التي لا تحتمل رفاهية أيّة فذلكات أو حزازيّات أو اعتبارات شخصية سخيفة. الوحدة في سبيل الحزب، ولا بديل من الوحدة كسبيل نحو القوة والوجود…
لم يكونوا كشيوعيّي اليوم… إذا أحدهم اختلف مع صاحبه على موضع همزة في كلمة، صار لا بدّ من «الانشقاق» و«التطهير» والطرد والنفي مع ردحاتٍ السُّباب والشتائم على كلّ المنابر ضد هذا التحريفي الأحمق، الذي تجرّأ على مخالفتهم في موضوع أين تكتب الهمزة! ولينتهوا أخيراً قطعاناً منفردة مشرّدة ورجال كهوف ودونكيخوتات مضحكين، كلّ واحد منهم يتصوّر أنّه على رأس جيش ولكنّه فعلياً على رأس بغلته يتبعه تابع أو اثنان يشكّلون معاً مشهداً مضحكاً غاية في الإضحاك. نعم للأسف، هذا هو حال شيوعيّينا و«أحزابنا» اليوم.
بالعودة إلى مؤتمر مينسك العتيد الذي حضره قادة المجموعات الاشتراكية الديموقراطية الوليدة في مراكز المدن، وممثلون عن الحلقات العمّالية مع هيئة تحرير «رابوتشايا غازيتا» (مجلّة العمّال) ومنظمة اليهود الاشتراكيين الديموقراطيين ـــــ البوند. فمن رحم الحركات الشعبوية والنقابية والقومية اليسارية، أٌرسيت أسس الحزب الماركسي الجديد. بليخانوف الذي كان قيادياً في منظمة «الأرض والحرية» مع آكسيلرود وفيرا زاسوليتش، نجحوا ليس فقط في إعلان ولادة الحزب الجديد الجامع، بل أنجزوا ما هو أهم وأبعد من ذلك بكثير. لقد أرسوا أسس تقاليد العمل الحزبي والسياسي اليساري في صلب الحركة العمّالية والشيوعية الروسية، والتي كانت في بدايات نشوئها في ذلك الحين. تقاليد العمل الجماعي والتوحيدي والتجميعي المرتكز إلى أعمق أصول الديموقراطية الداخلية الحزبية. هذه الديموقراطية الداخلية كمبدأ تنظيمي مطلَق وكتقليد ممارساتي عملي مرسّخ كان أهم إرث تركه المؤتمر التأسيسي الأول للحزب الديموقراطي الاشتراكي الروسي، حزب العمّال الأول والذي سيقود في ما بعد إلى ذروته التنظيمية والسياسية القصوى متمثلة بالبلشفية. الحزب بوصفه مؤسّسة جامعة تمتلك بشكل طبيعي كتلاً، تمتلك بشكل طبيعي اتجاهات وتيارات، تمتلك بشكل طبيعي «مدارس» داخلية، تعمل معاً وتنتظم معاً على أسس الديموقراطية الداخلية الأوليّة البسيطة: من تصويت وتعبير وانتخابات وحريات تامة شاملة، تتكوّن عبرها أغلبية تقود سياسياً ونظرياً وتنظيمياً مجموع الحزب. هذه هي تقاليد «الحقبة البوليخانوفية» إن صح التعبير (وهي أهم ما تركه بيلخانوف، حتى أهم من إرثه الفلسفي كمؤسّس لعلم الاجتماع الروسي)، تقاليد مرحلة التأسيس الأولى والتي سار عليها الحزب متّحداً لأكثر من عشرين عاماً، ثمّ ليمضي عبرها الحزب البلشفي (الذي تأسّس عام 1912 كممثل رسمي لأعمق وأرسخ تقاليد الحركة العمّالية الاشتراكية الديموقراطية الروسية)، ليقود واحدة من أضخم الثورات العمّالية في التاريخ الإنساني كلّه متابعاً التقاليد نفسها على مستوى أعمق وأرسخ وأكثر تقدماً وتعقيداً.
ولكن ما الذي حدث لنا نحن اليوم؟ ما الذي حدث لأحفاد بليخانوف في القرن الواحد والعشرين العرب؟ لقد تبنّى حزب العمّال الروسي أحدث مفاهيم العصر الحديث في العمل المؤسّساتي، أو في العمل الباني للمؤسسات المتمثل في منهج حل الخلافات والسجالات والاختلافات عبر الديموقراطية، معبّراً عبر ذلك في ذاته تنظيمياً، عن أحدث مفاهيم التنظيم، وأكثرها عصرية وحداثة. حلّ الاختلافات بالطرق الديموقراطية متمثلة بحرية التعبير والتصويت، ثم الانصياع للأكثرية!
هذه أبسط مبادئ الديموقراطية في أي مؤسسة تعتبر نفسها منتمية للعصر الحديث. فما الذي حصل لشيوعيي اليوم (خاصة في عالمنا العربي في مختلف مؤسساته السياسية والحزبية) ليعودوا إلى ما قبل التقاليد البليخانوفية حتى (بدلاً أن يتقدموا عنه) إلى الأساليب «القبلية» في حلّ الخلافات السياسية والحزبية الداخلية، بل وحتى الشخصية؟! إلى المناهج القبلية العشائرية المتمثلة بالطرد والنفي والإقصاء ضد كلّ من يخالف زعيم العشيرة ورأيه؟ ما الذي حصل حتى صار ممثلو الحركة العمّالية العربية «زعماء عشائر» منهجهم هو إما الطاعة أو الإقصاء؟ وفي حال وجود زعيمين، فكلّ واحد يستقل بـ«ربعه» ويمضي بهم لتأسيس قبيلة جديدة، وليبني عشيرة جديدة على الأسس القبليّة نفسها، إما الطاعة أو الطرد أو الانشقاق وتأسيس قبيلة جديدة!
بتنا اليوم في مرحلة، في كلّ بلد عربي نجد دزينة من المجموعات القبلية التي لا تخلو من الظِرف، مُضحكة في ضعفها وتقوقعها كلّها تدعي تمثيل الشيوعية والحركة العمّالية واليسارية «الحديثة»، ليس في بلدها وحسب بل حتى أممياً! وتوجّهها الثابت هو السب والردح واللعن ضد العشائر والقبائل المجاورة. وطبعاً على رأس كلّ منها «شيخ عشيرة» أو قبيلة لا تنقصه إلا العمامة لتكتمل عدّة المشيخة.
هذا هو واقع الكوميديا السوداء للحركة الشيوعية العربية اليوم، ولمجمل اليسار العربي. والتوجّه الوحيد المخلّص هو العودة إلى الإرث العمّالي العتيد في التنظيم الديموقراطي الراديكالي. التوحيد عبر حرية التعبير عن الرأي الداخلية. عبر الاجتماعات العاصفة والسجالات الفكرية، عبر المنابر والمواقع والصحف والوسائل كافّة. هكذا، تتوحّد القبائل ولا طريق آخر. عبر حياة داخلية حية وثرية وغنية وعاصفة في السجالات والاختلافات والنقد والرد والتصويت والتفاعل، ومساهمة الجميع وانخراط الجميع في اتخاذ أبسط القرارات انتهاء بأعقدها… هكذا، عرفنا الأحزاب العمّالية الحقيقية، هكذا كانت الأممية الأولى وهكذا كانت مؤتمرات الاشتراكي الديموقراطي الروسي وهكذا كانت الأيسكرا… وهكذا عموماً تخلق الأحزاب الناجحة. عبر تحوّل القبائل إلى تيارات (تيارات بالمعنى السياسي والفكري إن كان لها مثل هذا البعد) فتطرح نفسها في الحزب الجامع والموحّد ولتعمل بكل الوسائل الديموقراطية على تعويم خطها وتوجهها. أليس عبر صراع الكتل والاتجاهات تمضي الأحزاب وتتقدّم وتتطوّر وتولد؟
قبل أن نطالب أنظمتنا العربية المستبدة بـ«منحنا» الديموقراطية، فلنكن نحن ديموقراطيين أولاً ولنجتمع معاً ولنؤسّس حزبنا أولاً كحزب حقيقي يتبنّى الديموقراطية في داخله حقاً، متجاوزين مرحلة القبائل والعشائر. وعندها نصبح قادرين على الخروج للمطالبة بالديموقراطية في مجتمعاتنا.
* كاتب سوري
نقلا عن جريدة الأخبار اللبنانية