الجديد برس
إسحاق المساوى – صحفي مهتم بالشأن السعودي
في ثلاثينيات القرن الماضي، كان الإعلام السعودي يعكس للرأي العام جزءاً من حفاوة البيت الملكي لوفد الإخوان المسلمين القادم لأداء فريضة الحج بقيادة المؤسس حسن البناء، وبعد عقود لم تلبث هذه الحفاوة الرسمية أن تتحول إلى قوائم الإرهاب على ذات الوسائل الإعلامية.
سردية هذا الاضطراب والتناقض في العلاقة السعودية الإخوانية، لا تخلو بالطبع من انعكاسات الحالة العربية والإسلامية وأخيراً الخليجية؛ دفعت بهما إلى مسار خطير من المواجهة الكلامية إلى “كسر العظام”، ما حمل كثيراً من الغرابة حول ما يجري، في حين أن صناع القرار يعتبران أن ثمة ترابط منطقي لكل ما بدى غير منطقي.
وبعيداً عن جدلية الحق والباطل التي يتحاججان بها على طريقة الضرائر عمن بدأ الخيانة أولاً؛ فإن المصالح المشتركة التي ألفت بين القلوب وكستها ثوب التقوى، انحرفت عن مسارها في مواقف معينة، انتهت إلى نتائج معينة، ينبغي أن نتوقف عند أبرزها، على طريقة معاكسة لقاعدة “ما يحدث أخيراً يكتب أولاً”.
بداية الشراكة
هناك تجذر طويل الأمد لجماعة الإخوان المسلمين في السعودية انسجم في بدايته مع طموحاتها وأهدافها. ومن شواهد البدايات لتعزيز العلاقة، استقبلت السعودية وفد من الحجيج يترأسهم المرشد العام للتنظيم الدولي لجامعة الإخوان المسلمين حسن البنا، وكان الإعلام السعودي ينقل أصداء الحفاوة الرسمية بافتتاحية على جريدة “أم القرى” تحت عنوان “على الرحب والسعة” في العدد الصادر بتاريخ 14 مارس/ آذار 1936م.
بعدها، أقامت المملكة مؤتمراً خاصاً بالحجاج، ألقى فيه حسن البنا كلمة يدعو فيها إلى “الرجوع إلى الإسلام من جديد” وبينما كان المرتقب أن تستاء السعودية من “دعوته” إلا أن كلمته نالت إعجاب الحضور، وذهب الجميع إلى معانقته والتعرف عليه وسؤاله عن دعوة الجماعة.
في العام 1953م تجذرت روابط المصالح السياسية، بانتقال الشيخ مناع القطان- سكرتير حسن البنا وخريج الأزهر- إلى المملكة فتم تعيينه رئيساً للمعهد العالي للقضاء. ومن موقعه الرسمي والسياسي والديني، منحته المملكة ضوءً أخضر، ليكون من أبرز الفاعلين في إنشاء رابطة العالم الإسلامي، والبنك الإسلامي للتنمية، والندوة العالمية للشباب الإسلامي، ومؤسسات أخرى إسلامية سُميت فيما بعد بـ”المؤسسات الإخوانية” في المملكة.
توقيت انتقال القطان، لم يكن على سبيل الصدفة، فالظرف الجيوسياسي في المنطقة العربية، كان يقتضي أن يتخلق “تحالف إسلامي” في مواجهة مشروع “القومية العربية” التي تبناها الرئيس المصري جمال عبدالناصر، العدو الممقوت للسعودية، وللإخوان الذين سيقوا بالآلاف إلى سجونه، ومن هم من هاجر قسراً كمناع القطان.
اللافت هنا أن دوافع العدو المشترك، كانت أقوى من دوافع التحالف المشترك تحت رافعة الإسلام، ولهذا السبب كان الملك فيصل بن عبدالعزيز، مضطراً للتماهي مع المشروع نظراً للتهديد الخارجي. علاوة على أن المشروع نفسه يمثل خدمة لأهدافهما على المستوى المحلي في السعودية، فالإخوان نشطوا تنظيمياً وتمكنوا من جعل السعودية مصدراً رئيسياً لتمويل التنظيم الدولي، بالمقابل كان الملك فيصل يريد جماعة الإخوان لتشكل ثقلًا موازنًا للفكر الوهابي الشريك المؤسس لإمارة الدرعية التي نراها اليوم في حقبتها الثالثة بمسمى المملكة العربية السعودية.
بداية الخلاف
بخلاف المعتاد، خرجت المؤسسة الدينية الإخوانية عن سرب المملكة في رفضها حرب الخليج الثانية عام 1990م، تماشياً مع رغبة التنظيم الدولي، ومن هنا يمكن التأصيل لكل محطات الصراع القائم اليوم؛ فالسعودية وجدت نفسها مخذولة ممن فتحت له أبواب أراضيها وخزائنها، حين كانت المعتقلات هي الأماكن الوحيدة المشرعة أمامه، والصدى هو العائد الوحيد من خزائنه المصادرة.
هكذا يروي الخطاب السعودي الرسمي فصل الإخوان “المتخاذل” -إن لم يكن المتآمر-في حكاية حرب الخليج، دون مراعاة لعجز الجماعة الإخوانية عن رد الجميل بمخالفة الرغبة العامة للتنظيم الدولي إزاء الحرب، ودون مراعاة أيضاً لعقيدته السياسية التي لا تمكنه من أن يصبح كطبل الوهابية المستجيب دائماً ليد المليك التي تقرعه.
حتى اليوم تختزن الذاكرة السعودية، رموز دعاتها الإخوان، كمحمد سرور، وسفر الحوالي، وسلمان العودة وآخرين، الذين عبروا عن موقف الجماعة قديماً من حرب الخليج، وقالوا حديثاً إن على السعودية ألا تنسى صنائع معروفهم في تأسيس القضاء والتعليم والتماهي مع أغلب مواقفها من القضايا المحلية العربية والإسلامية.
وبعيداً عن سياق العتاب الذي تحول إلى عراك محتدم؛ فإن السياق التاريخي للأحداث المتعاقبة من نقطة حرب الخليج، يوثق انحداراً في العلاقة السعودية مع فرع الإخوان لديها، ثم مع التنظيم الدولي في كافة أقطاره، وإن بدت العلاقة متماسكة في بعض المواقف الراهنة كالحرب العدوانية على اليمن، التي يمكن تصنيفها بـ “تحالفات الضرورة”.
وعقب حرب الخليج مباشرة، دشنت جماعة إخوان السعودية، مساراً تصعيدياً مباشراً، ضد قيادة السعودية، وقد لفظت من أعماقها في 1991م ما عرف بـ “خطاب المطالب” إلى الملك فهد بن عبدالعزيز، والذي تضمن رؤية إصلاحية سياسية، تبعها تصعيد آخر في 1992م قفز مباشرة إلى الدعوة لاحتجاج شعبي إن لم تستجب السعودية للمطالب.
ثم تصعيد ثالث في 1993م بتأسيس لجنة الدفاع عن الحقوق والحريات، -وهو العمل المحظور في السعودية- وبعدها تدحرجت التصعيدات خلال العقدين الماضيين، وصولاً إلى تابوهات (نظام الحكم) ملوحين باستبدال الملكية المطلقة بملكية دستورية، في محاكاة قريبة لنظام الحكم في بريطانيا (الملك يسود ولا يحكم) وقد تبنى هذا المشروع الداعية الدستوري عبدالله الحامد الذي سجن لست مرات، وتوفي في سجن الحائر -سيئ الصيت- في أبريل 2020م نتيجة تدهور الوضع الصحي.
بالمقابل، شعرت القيادة السعودية بالخطر، فقضية نظام الحكم يجب أن تبقى محاطة بالقداسة، وخارج التداول النخبوي والشعبي، ولذلك تعاملت بكثير من الغلظة إزاء الرؤى الإًصلاحية الإخوانية، فاعتقلت أصحابها وحيدت كثيراً من أنشطتهم، وبقيت هواجس الخوف حاضرة بقوة.
لقد تبين فيما بعد أن التلويح بورقة “نظام الحكم” استراتيجية تصعيدية وجدها الإخوان ناجحة في إيلام السعودية والضغط عليها أكثر من القضايا الحقوقية والمدنية، في حين أن السعودية وصلوا فيما بعد إلى القناعة التامة بأن الاعتقال وحده لا يكفي لوقف التلويح، ولابد من تصعيد مماثل يقضي على مباعث القلق الدائم حول مستقبل الملك.
لقد ازداد اليقين السعودي رسوخاً، في موجة الربيع العربي التي شهدتها المنطقة في العام 2011م، في ظل الدور الريادي للتنظيم الدولي للإخوان المسلمين. ولأن السعودية تشعر أن التغيير السياسي في أي دولة بالمنطقة يهدد مصالحها؛ سعت بثقل نفوذها السياسي والمالي لإجهاض الربيع، كونه يمثل أيضاً تصفية الحسابات التاريخية العالقة، فبدأت مشروع الإجهاض من مصر التي لها مكانتها الخاصة لدى جماعة الإخوان، وفيها دفعت الأخيرة نحو سبعة عقود من النضال والاعتقال والاغتيال، قرباناً للوصول الخائب إلى الرئاسة المصرية.
خلاصة العلاقة السعودية التاريخية مع فرع الإخوان لديها ومع التنظيم بشكل عام، خلال خمسة عقود ابتداء من خمسينيات القرن الماضي وحتى عام 2011م، ولدت القناعة لدى كل منهما بضرورة إزاحة الآخر، فلا الدعم المالي والسياسي السخيين المقدم من السعودية قد مكنها من كسب ود الإخوان، ولا الإخوان بـ”شراكتهم في بناء السعودية” ومحاولة التماهي مع بعض أهدافها قد مكنتهم من كسب ودها، ذلك أن الفريقين يهدفان منفردين -بما يعرف في أدبياتهما- لزعامة العالم السني، وللأحداث والتحولات التي سبقت وأعقبت الربيع، تأكيد على صحة ذلك.
بداية العداء العلني
رغم أن العلاقة التاريخية بين السعودية والإخوان شهدت سلسلة من التذبذبات تراوحت بين التنسيق والتعاون تارة والقطيعة والمصالحة تارة أخرى، إلا أن العلاقة منذ 2011م، دخلت مرحلة اللا عودة، فالعداء المعلن على أشده، والمناورة التي كانت قديماً بينهما حول القضايا الفرعية كالحريات والحقوق المدنية، تصاعدت بشكل متسارع، حين دخلت إلى مسرح مستقبل الوجود.
ومن أبرزها تصنيف الإخوان بالـ “الجماعة الإرهابية” عام 2014م، كمقدمة لدخول المنطقة الخليجية أعقد مراحل العداء المعروف بـ”مقاطعة قطر” في يونيو 2017م، تحت طائلة من الاتهامات وأهمها دعم وتمويل مجموعة من الأنشطة “المنظمة” لزعزعة الاستقرار المحلي في السعودية، عبر عدة أطراف أبرزها إخوان السعودية والقاعدة.
هذا الحدث كان أشبه بزلزال هز أركان الخليج، وتداعت له سائر الأحداث التي تلته، فيما عرف “باجتثاث الخطر الأعظم الذي مر بالعالم خلال آخر مائة عام من التاريخ” كما قال الأمير محمد بن سلمان عقب أشهر من توليه منصب ولي العهد، بنية صارمة لإخلاء ساحة مملكته والخليج والمنطقة بشكل عام من الإخوان المسلمين.
بداية الاجتثاث
وكمن يمحو عهداً ويستبدله بآخر مع فائض المسبات، استخدمت المملكة ما بوسعها لاجتثاث كل ما يحمل هوية “الإخوان المسلمين” فلاعتقالات طالت أكثر من 20 شخصاً من رموزهم كسلمان العودة وعوض القرني، وسفر الحوالي، والمناهج الدراسية التي شاركوا في تأليفها خلت من الحبر “الإخواني” تماما كما خلت العملية التعليمية من بعض كادرها المتهم بانتمائه للإخوان، والمتأثرين بهم.
حتى المكتبات العامة والجامعية لم تسلم هي الأخرى من انتزاع ما بقي رفوفها لعقود ضمت نحو 80 مؤلفاً لسيد قطب وحسن البنا ويوسف القرضاوي، ولم يبقى من آثارهم غير النهايات الحزينة على شاشة الجزيرة معززة بتضامن إعلام ومنظمات الغرب، مقابل هيمنة السلطة السعودية المدعومة من حكومات الغرب.
وتزامناً مع عاصفة “الاجتثاث” التي طالت كل شيء بلا استثناء، استقبلت دول من العالم الغربي، آلاف المهاجرين السعوديين، ممن لم تتمكن السجون من استقبالهم، فقد بلغت الهجرة واللجوء من 2015م، وحتى 2017م، نحو 2392 شخصاً، إذ التحق الكثير منهم بصفوف المعارضة الإخوانية في الخارج التي تأسست نواتها الأولى بداية تسعينيات القرن الماضي، ما شكل رافداً إلى قوتها التي ما تزال محدودة حتى الآن، إلا أنها تمكنت مؤخراً من أن تخلق استجابة المجتمع الحقوقي الغربي والوسائل الإعلامية ولفتت أنظارهم إلى جانب من الأوضاع المتردية السياسية والاقتصادية والاجتماعية، التي لم تكن تحظى بالاهتمام قبل إعلان الحرب على إخوان السعودية.
بداية دخول التنظيم خط المواجهة
كان يجري كل هذا في ظل صمت مطبق للتنظيم الدولي للإخوان، وغياب عن مشهد “اجتثاثه” وفرعه السعودي منذ بداياته في 2014م، وحتى منتصف العام 2018م
بعد أن تعثرت كل المساعي التصالحية السرية، وبدا أن ولي العهد السعودي عازم في مشروعه بلا تردد، وقد ملأ العالم ضجيجاً وتحريضاً على التنظيم “الأخطر من إيران، والإرهابي، والمنغلق، والمتآمر، والخياني” كما قال وتوعد في لقاءاته وزياراته الخارجية وكل مناسبة وغير مناسبة.
مضى من الزمن 4 أعوام، لينفد صبر التنظيم ويخرج إلى العلن ببيان هو الأول من حيث القوة والأهداف بقوله: “إن الدول تدق مسمار نعشها حين ترمي الناس بالباطل، وتقتل المدنيين، وتحاصر الأشقاء وتتنازل عن القدس وتقوي العلاقات مع الصهاينة، وإن ربط ولي العهد السعودي الإخوان المسلمين بالإرهاب محاولة خائبة منه لمنحه تذكرة برعاية أمريكية لتوليه العرش”.
البيان لم يكن مجرد تنديد، أو تسجيل موقف معلن وحسب؛ إنه تهديد باستدعاء كل الأطراف المحلية، والإقليمية، والإسلامية، المتضررة من السعودية، لإسقاط النظام السعودي؛ ومكاشفة علنية عن المبادئ العامة لحربه ضد (الردة السعودية):
“شاركنا بكل صدق في بناء المجتمع السعودي، وقدمنا ذلك عرفاناً بالجميل وبما يقتضيه الواجب الديني والأخلاقي، وما تقوم به القيادة في السعودية الآن- خاصة ابن سلمان- نكوث عن الواجب الديني والقومي”.
وكأن التنظيم -إلى جانب مبادئه العامة للحرب- قد وضع أمام الأسرة الحاكمة السعودية، خطة (استدراك)، مزودة بمجموعة من الاشتراطات، أولها عودة الشراكة، وأهمها استبعاد ولي العهد محمد بن سلمان، الذي يتزعم الحرب ضد التنظيم حتى اليوم. لكن يبدو أن السعودية لم تكترث كثيراً للتهديد والاشتراطات، فعلى الأقل، نحن على بعد عامين من البيان، الذي أعقبته أحداث حققت نجاحاً لـ “حرب اجتثاث الإخوان” في السعودية والمحيط العربي، ولعل اغتيال الصحفي جمال خاشقجي بعد خمسة أشهر من تهديد التنظيم، وإذابته في مجاري الصرف الصحي، رمزية للنهاية التي وضعتها المملكة للإخوان.
ويبقى الخطر قائماً، فالشراكة التاريخية مكنت جماعة الإخوان من القوة والتوسع وتحقيق أهدافها السياسية والعسكرية والاقتصادية، وربما باتت اليوم قادرة على أن تكون فعلاً “مسماراً في نعش المملكة”.