الجديد برس : رأي
إسحاق المساوى
فجأة.. أصبح توأم المملكة السعودية، وعمود ثباتها في وجه المحن، (مجهول الهوية) في حاضر بلد بات قادتها يتساءلون: “ما هي الوهابية؟ نحن لا نعرف شيئاً عنها!”.
نبرة الجحود الرسمية هذه، نسفت توأمة يعود تاريخها للقرن الثامن عشر، عُرفت حينها بنظرية الحكم القائمة على تعاضد السلطة السياسية المطلقة بقيادة محمد بن سعود وأبنائه، والسلطة الدينية المطلقة بقياد محمد بن عبدالوهاب وأتباعه.
حينها حشدت الوهابية طاقتها لتكون درع آل سعود الحصين، وغطاؤهم الديني الصلب، فخلقت امتداداً سماوياً لتصفية زعامات قبائل الجزيرة العربية، وتدجين مجتمعاتها على السمع والطاعة المطلقتين، للأمير الجديد القادم من الدرعية، ثم لأبنائه وأحفاده، مروراً بالدولة السعودية الثانية وصولاً إلى الثالثة، التي حققت جميعها توازنها، وقوتها، وبقاءها، ونفوذها في العالم الإسلامي، مع رضى العالم الغربي؛ بالاستناد على الوهابية، والاتكاء على عصاتها. لكنها أصبحت (مجهولة الهوية) لدى ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، ومبعث تساؤله: “ما هي الوهابية؟ أنا لا أعرف أي شيء عنها!”.
بالطبع، لا نحتاج إلى استدعاء تاريخي لانتزاع حمض DNA يثبت العلاقة التي أنجبت توأم السعودية والوهابية، بقدر حاجتنا الآن لمعرفة ما إذا كانت الوهابية عازمة على إنقاذ حاضرها ومستقبلها (المجهول) من مضاعفات الزهايمر الحاكم؟ أم أنها تنتظر التعافي المفقود كمقدمة للتراجع المفقود أيضاَ عن التساؤل: ما هي الوهابية؟.
لقد مضى على تصريح ولي العهد وتسريحه للوهابية أربعة أعوام، لكن بوادر التحولات السعودية والخليجية إزاء التطبيع، تعيدنا لمربع الجدل من جديد، فالوهابية فقدت موقعها الديني، بتمرد قاده بن سلمان على ثوابت الحكم الراسخة كأنها لم تكن، ومن المتوقع، بل والمنطقي، ألا تقبل الوهابية هذه النهاية “الظالمة” والتغييب القهري عن أي دور في الحاضر والمستقبل، عدا عن تمظهرات فارقة للبعض -وترويضية للبعض الآخر- خلقت من هيئة الرجل السلفي، متطوعاً لتوزيع الورد على شوارع المملكة، ومن إمام الحرم، نديماً للاعبي البلوت في مقاهي الشباب الموسومة بالحرام قديماً.
بمقابل هذا الانحناء الاضطراري للعاصفة؛ تختبئ براكين ناقمة على السعودية الجديدة التي انفرطت من سبحة محمد بن عبدالوهاب، واعتلت منصة محمد عبده، ومعها عجز عن المجاهرة بالاعتراض من ذات المنابر التي حثت الناس على طاعة ولي الأمر الظالم وإن اقترف الكبائر. فهل تقود الوهابية تمرداً مماثلاً، على موروثها الديني بجواز الخروج، بعد نالها الظلم والجحود؟
الفكرة قد تكون: مجدد وهابي مقابل مجدد سعودي، والمبررات التي أوجبت على الوهابية الطاعة، قد خلقت في ظرفها المحلي فرصة لتبديل مضامين الخطاب الديني نتيجة الانحراف في السلوكيات الاجتماعية، وصولاً إلى الانحراف الجوهري في القضايا المركزية للأمة الإسلامية، إذ ثمة ما يجعل من المقدسات الواقعة ضمن جغرافيا التطبيع ونفوذها؛ هدية القدر الكافية لشرعنة التمرد على السعودية وكل الأنظمة المهرولة نحو “إسرائيل” وبهذا يكون بمقدور الوهابية أن تضمن الخروج المشرف -أمام العالم الإسلامي- من عباءة آل سعود، وبالتالي قد يكون ممكناً لداعية سلفي أن يتساءل هو الآخر: ما هي السعودية؟ نحن لا نعرف شيئاً عنها!”.
وبعيداً عن بساطة المناكفة والمناكفة المضادة، فإن القضية تتعلق بالوجود الوهابي المهدد بالانقراض، وبحقوقه المصادرة، والمغيبة عن مظاهر الحياة العامة أو الخاصة، بهدف تلاشيها من الوجدان والوعي المجتمعي، وقد تلاشت إلى حد كبير مع الانخراط السريع في بدائل النظام الفنية والفكرية والسلوكية بنموذجها الغربي، الأمر الذي يشي بقدرة تأثير البدائل وغلبتها السريعتين على التعبئة الدينية رغم عمرها الطويل، وهذا يعني في خاتمته خروج المنظومة الوهابية عن الخدمة تماماً، لتسهيل ملاحقتها ليس بتهمة الفكر الموسوم بالإرهاب وحسب، بل حتى بدعوى التواجد بالأماكن العامة نظراً لهيئة أتباعها المخالفة لمعايير الموضة والعصر.
على مستوى عام وأعمق، فقد أصاب ولي العهد الوهابية بطعنة في عقيدتها حين اتهمها بالعمالة والجاسوسية قائلاً: “صدّرنا الوهابية بطلب من الغرب لمنع تقدُّم الاتحاد السوفييتي في دول العالم الإسلامي”. وعوضاً عن تناقضه مع نفسه ومع التاريخ في إثبات الوهابية وإنكارها، إلا أن تأطير الوهابية (علناً) بالعمالة للغرب، هو التحريض الأخطر على مستقبلها، وتحديداً على حياة هيئاتها العلمائية التي كانت تكفر الغرب على الدوام، وظلت تتحدث لعقود عن “الولاء والبراء”.
على هذا النحو من الحرب المدروسة في توقيتها ومنحاها التصاعدي، لن يبقى لتوءم الحكم السعودي، مطرحاً للبقاء، فهو شعبياً متهم بالتخلف والرجعية، وإسلامياً، طائفي ممقوت، ودولياً مدان بالإرهاب ومطلوب للعدالة، وتوأمه السياسي المباشر يتساءل: “ما هي الوهابية؟ لا نعرف شيئاً عنها!”. كما لو أنها نتاج نزوة شيطانية، ذهبت للمجهول، خشية أن يلاحق أطرافها العار.
وهكذا تضيق الأرض بالوهابية، مع ضيق الخيارات التي يحشرون أنفسهم داخلها، وتحشرهم فيها السعودية والغرب، وربما لم يتمكنوا بعد من تجاوز الخوف والموروث الوهابي -الذي تحول إلى لعنة عليهم- للخروج برؤية جديدة شكلاً ومضموناً، تحدد بوضوح الموقف من التوأم التاريخي (السعودي) كخطوة أولى للتصالح مع “العدو التاريخي” في المنطقة الإسلامية أولاً.
بالطبع، ليست فكرة المجدد الوهابي سهلة، لكنها حتمية للبقاء، وليس ببعيد أنها تدرس في الوقت الراهن، لكن مزيداً من الوقت يفقدها الحيوية والقدرة على إعادة التموضع. فالوقائع لا تشي بأن ما يحدث مجرد سحابة صيف، استناداً على منعطفات مشابهة قوضت من قوة الوهابية لبعض الوقت، مثلاً، مع مجيء الإخوان المسلمين إلى السعودية في منتصف القرن العشرين.
إضافة إلى أن ظروف الثورة الإيرانية وحركة جيهمان العتيبي في 1979م، التي أعادت السعودية للاتكاء الكامل على عصاة الوهابية واشتراطاتها، لن تخلق مرة أخرى، ما لم تستلهم الوهابية نفسها نموذج جيهمان نفسه. ناهيك عن الدلائل الواضحة -التي لا تحتاج لحدة بصر كي ترى- بأن بن سلمان يمضي بإصرار نحو سقوط السعودية قطعاً. فهل تستمر التبعية الوهابية حتى في السقوط؟.