الجديد برس : رأي
إسحاق المساوى
لم تكن فكرة تقسيم المنطقة على أساس سايكس بيكو، غير تجسيد لواحدة من الكوارث الدامية التي ولدتها مخاضات الحرب العالمية الأولى، وألغت على إثرها عوامل الترابط العضوية، لصالح الحدود المصطنعة والقاتلة هنا في شبه الجزيرة العربية.
هذه العوامل كانت مبعث الأسلاك الشائكة، والجدران العازلة حقاً للإنسان عن هويته الدينية، والجغرافية، والتاريخية الأصيلة، كأن يجد نفسه المرء بين غرباء خرجوا من لقاحات التزاوج غير المشروع، في مكان هو بالأحرى خلاءً تتبول فيه القوافل العابرة، قبل أن يتحول مملكة أسرية مشفوعة بغطاء التقسيم والتمزيق الذي امتد إلى الجنوب الغربي لشبه الجزيرة العربية لتصير -قسراً- عمقاً جغرافياً لهذا الخلاء الذي يسعى بعد ثمانية عقود لشد عصب الانتماء الوطني واختبار ولائه، ببتر آخر عصب يوصل الجنوب بامتداده القبلي والمذهبي اليمني، كخاتمة للبتر السابق عن الجسد والتاريخ الواحد.
من مظاهر البتر على سبيل المثال لا الحصر، تجسدت بتشكيل أفواج عسكرية في منطقة نجران وتحديداً من قبيلة يام في مايو2017م، بهدف معلن لمواجهة التمدد العسكري اليمني على الحدود، وغير معلن ظهرت ملامحه من نوازع التمزيق الأول للمنطقة على أيدي أطراف الحرب العالمية الأولى، وعبر الابن غير الشرعي لبريطانيا عبدالعزيز آل سعود وسلالته.
وعلى الرغم من تعزيز فكرة الأفواج للموقف الرسمي الراسخ على مدى عقود بأن نجران منسية حتى تزورها الحروب، ومدانة بتهمة اليمن حتى لو أثبتت العكس، إلا أنها مثلت تكريساً إضافياً لنظرة نجد الدونية من خلال تشكيلات عسكرية ليست “نظامية” ولم تمنح الثقة لتنفيذ مهامها في النطاق الجغرافي لنجران كما هو متوقع، بل دفعت باتجاه مسرح العمليات العسكرية في جيزان وعسير، فالمهم أن يتحقق الهدف المأمول في “تأجيج الصراع وأخذه إلى مناحٍ قبلية ومذهبية لا تنتهي” وفق رأي نجراني فَطِنَ لتسمية هذه المؤامرة بـ “أفواج التمزيق”.
على الجهة المقابلة للفطنة غير المسموعة، في ظل أصداء أقوى للأصفر الرنان، هيأت المخابرات العسكرية لنجد ومعها سلطة الإمارة الظروف الملائمة للتفويج “بتحريك النزعات والنزاعات القبلية” مرفقة بعمليات الإغراء المادي المهول لأصحاب السبق في مضمار النفير العسكري إلى ساحات (الموت) كهدف أولى من (الانتصار). في حين أن مصادفة السلامة الإلهية للبعض تستدعي حضور النيران الصديقة؛ لتتجلى ابتسامة نجد العريضة على فوارغ الأجساد المغدورة بفوارغ الرصاص المشهودة التي لم تخطئ هدف التمزيق.
مشهد الغدر النجدي بنوايا التمزيق يحيلنا إلى منعطفات تاريخية مماثلة، أوقعت الجنوب الغربي لشبه الجزيرة بالفخ، عندما قدّم الأدارسة أنفسهم حليفاً (استراتيجياً) لبريطانيا عام1915 م، في حين أن الأخيرة وجدت في هذا الحلف تكتيكياً يخدم مشروع التمزيق، ويمهد لقبضة ابن سعود، ولا يتعارض معهما على المدى البعيد، كما تكشف لاحقاً.
دخل الأدارسة بتحالف 1915م حلبة صراع أكبر من قدرتهم على المبارزة؛ فحليفهم المفترض قد حسم مؤامرة التقسيم وهوية منفذها سلفاً، وعدوهم المفترض، هو امتدادهم التاريخي، وبين مساحة الافتراضات هذه سقطت نجران وكل الجنوب الغربي في أخدود 1926م.
إن اللحظة الراهنة في نجران ليست سوى انعكاس دقيق للحظة تاريخية فارقة، تتشابه في المقدمات لكنها ستخلف في كارثية النتائج، التي تفضي إلى حقيقة تمزيق الممزق تمهيداً لما هو أدهى وأمر.
جلاء هذه الحقيقة، تتكشف من اعتمالاتها الميدانية المتصاعدة منذ بداية العدوان، مع ما أضيف إلى مشهدها من لاعبين جدد كالإمارات -التي يزور سفيرها نجران أكثر مما يزور بلاده -إضافة إلى قبعات المارينز الأمريكي الخضر، وحضور دبلوماسي لسفيري باكستان، والهند، اللتان تشكلان حاضنتان للإسماعيلية ومرجعيتها في العالم الإسلامي، في ظل حضور رسمي لـلاعبين قدامى لا يخلو من أثر تاريخي مقصود بشخص أمير نجران جلوي بن عبد العزيز، وتواجد طاغٍ للوهابيين الذين تدفقوا من كل المناطق إلى نجران لممارسة أنشطتهم دون أن يعترضهم مزاج (رؤية 2030) لإسلام بمقاسات الترفيه، وللوجوه والأحداث والتوقيت، إرشيف في ذاكرة المنطقة وأبنائها.
الأمر الذي يجعل من تنبؤات قادم الأيام موحشة جداً، ليس بمقدار الانبعاث لروائح الدم التي يمكن تخيلها من مجرى لعاب الكلاب الوهابية المتهافتة لولا أن الصفارة لم تبدأ بعد، ولا بقتامة المستقبل الذي يبدو عدمياً جراء التماهي مع نجد، والحياد في بعض مواقفها، ولا بمؤامرة “النار تأكل بعضها” عبر تغذية الصراعات البينية، ولا بتقطيع العصب المذهبي، والعرقي، والقبلي، على الرغم أن ما سبق في سياق مترابط- لكن الوطأة الأشد في نقطة النهاية التي أرادت نجد بلوغها مع دول الخليج قاطبة في مشروع تمزيقي جديد ومصير واحد يجمعهم وإسرائيل.
ما الذي يمكن لنجران فعله حيال التطبيع؟ وهي ذات مكانة دينية شهد على صلابة ايمانها بالله القرآن، وهل سنرى نقمة أخرى على شكل أخدود معاصر يقذف فيه كل من خالف مشيئة “الكيباه”؟
*إسحاق المساوى صحفي مهتم بشأن الجزيرة العربية وله عدة مقالات في هذا الشأن.
نفلا عن موقع قناة المسيرة