الجديد برس : رأي
إسحاق المساوى
في ثلاثينيات القرن الماضي، كان الإعلام السعودي ينقل للرأي العام أصداء الحفاوة الملكية بوفد «الإخوان المسلمين» القادم لأداء فريضة الحج. حفاوة لم تلبث أن تحوّلت، بعد عقود، إلى قوائم إرهاب على الوسائل الإعلامية ذاتها.
سردية هذا الاضطراب في العلاقة السعودية – الإخوانية، استمدت طاقتها من انعكاسات الحالة الغربية، والإسلامية، والعربية، وأخيراً الخليجية، في ترابطٍ منطقي لكلّ ما بدا غير منطقي.
وبعيداً عن محاججة الضرائر عمّن بدأ الخيانة أولاً؛ فإنّ المصالح المشتركة التي ألّفت بين القلوب وكستها ثوب التقوى، انحرفت عن مسارها في مواقف معيّنة، ما انتهى بها إلى نتائج معيّنة، ينبغي التوقّف عند أبرزها، على طريقةٍ معاكسة لقاعدة «ما يحدث أخيراً يُكتب أولاً».
ظهرت جماعة «الإخوان المسلمين» في الدولة السعودية الثالثة، بافتتاحية على جريدة «أمّ القرى»، تحت عنوان «على الرحب والسعة»، استقبالاً للمرشد العام للجماعة حسن البنا، منتصف آذار / مارس 1936، والذي طغت مناسبة قدومه في تغطية وسائل الإعلام، على مناسبة الحج نفسها، إلى أن أقام مؤتمراً دعا فيه إلى «الرجوع إلى الإسلام من جديد»، حتى توقّع البعض «استياءً» كان بالنسبة إلى السعودية لاغياً في مشهد عناق الحاضرين للبنا، ولهفتهم على دعوة الجماعة حينها.
من هنا، رسمت مؤشرات التحالف مع السعودية خطوط تحوّلات كبرى، كان من النادر قبل هذا التاريخ، أن تجمع مشروعين متناقضين في بوتقة واحدة، لولا اضطرار المصالح والمصائر المشتركة، من نذر تهديدات قادمة اقتصرت رؤيتها وتفاصيلها على أجهزة الاستخبارات البريطانية، وخشيتها من فقدان الحليف الماثل السعودية، وبديله الأمثل «الإخوان المسلمين».
بعد عقدين ونصف عقد من الزمن على زيارة البنا، حدثت تفاعلات إجرائية على الأرض، تفادياً للخشية البريطانية، وتهيئة لطموحاتها الأمثل؛ إذ انتقل على إثرها سكرتير البنا وخرّيج الأزهر، مناع القطان، إلى السعودية، عام 1953، وعُيّن رئيساً للمعهد العالي للقضاء، ومُنح صلاحيات شاملة مكّنته من إنشاء رابطة العالم الإسلامي، والبنك الإسلامي للتنمية، والندوة العالمية للشباب الإسلامي، ومؤسّسات أخرى سُمّيت بـ«المؤسّسات الإخوانية» لاحقاً.
حدث هذا الاندماج العجيب، في ظلّ ظروف جيوسياسية ضاغطة، كان من أهدافها أن يتخلّق «تحالف إسلامي» في مواجهة «القومية العربية» بقيادة جمال عبدالناصر، العدو الممقوت للسعودية، ولـ«الإخوان» الذين سيقوا بالآلاف إلى سجونه، ليخرج أخيراً هذا الحلف بدافع العداء الشخصي، أكثر من دوافع القضايا المركزية تحت رافعة الإسلام.
بالمقبل المحلّي، وجد الملك فيصل بن عبد العزيز في «الإخوان» فرصة ليشكّلوا ثقلاً موازناً للفكر الوهابي، رغم تحالفهم معه في إسقاط أخيه الملك سعود. وبالمثل، كان ثمن المشاعر الدافئة، بعناق البنا أولاً، وتمكين القطان لاحقاً نشاط «الإخوان» تنظيمياً في موطئ قدمهم الجديد، وفي ساحة صراع ماثلة تهدّد مصالح الطرفين، وأخرى مؤجّلة من دَخلها آخراً ينتصر أولاً.
غير أنّ السعوديين تدافعوا على بنائها، كما يتدافع الأطفال على باعة الحلوى، ظنّاً بأنه سيكون كطبل الوهابية الذي يستجيب دائماً ليد الملك التي تقرعه، لا تنظيماً دولياً بطموحات (سيادينية) متعارِضة في المنهجية والأسلوب عن الطبل، فضلاً عن كونها معدّة سلفاً ضمن المشروع البريطاني للتحكّم بمسار الحكم الراهن، وببدائله على المدى البعيد. لذلك، اقتضى فقه الضرورة أن يبدو طابع الفرع المحلّي لـ«لإخوان»، «سلفياً» على مقاس نظرية الحكم المطلقة لبعض الوقت.
لقد اعتمدت جماعة «الإخوان» استراتيجية «تمويه» غير مرئية للحليف السعودي. حوّلت موطئها الجديد مصدراً رئيسياً لتمويل التنظيم الدولي. استفردت في مؤسّسات حساسة كالتعليم والقضاء. اخترقت جيداً مراكز صناعة القرار. بنت قاعدة شعبية على طول البلاد وعرضها. خلقت جسور التواصل مع الخارج الغربي وأحيت خطوطه مع المحيط العربي. وبالتالي، صار بوسعها أن تصعد درجة لتغيّر ملامح العلاقة مع السعودية، من الحليف إلى الشريك. ومن دعم القرار إلى صناعته محلياً وخارجياً. ثم الاستفراد به بهدف الوصول إلى غاية السيطرة على مقدّسات المسلمين نهاية المطاف، بأيّ ثمن، وإن يكن رأس المال بأكمله.
تتابعت الضربات الموجعة من نقطة حرب الخليج وتصاعدت بالتزامن مع أعمال إجرائية مكثّفة كتنظيم احتجاج شعبي تزعّمه سلمان العودة في عام 1994
نمت النبتة الإخوانية وتكاثرت، حتى باتت بعد ستة عقود من بذرها، غابة أشجار أقوى وأمتن من جذع النخيل. وبالتالي، اختار «الإخوان» أصعب توقيت لتصادم المصالح بالخروج عن سرب السعودية، في حرب الخليج الثانية عام 1990، تماشياً مع مصالح التنظيم الدولي، وتدشيناً لاستراتيجية جديدة تخلّصت من أقنعتها المستعارة، وأساليب التمويه المملّة، لتبدو أكثر وضوحاً واتساقاً بالمشروع الأم.
حينها، بات على كلّ طرف أن يمنطق حججه العدائية تمهيداً للقضاء على الآخر؛ فالسعودية في أعقد ظرف عسكري وجدت نفسها مخذولة ممّن «آمنت خوفهم وأشبعت جوعهم»، بينما تخلد الذاكرة «الإخوانية» في الذهنية الجمعية معروفها في تأمين السعودية من الخطر الخارجي، وتحقيق التوازن المحلّي، غير أنّ عتاب الضرائر هذا غارق حتى الرأس بمنطق «الأنا أو الطوفان» في ساحة صراع يتمسّك أطرافها بحتمية أن تخلو لفارس وحيد.
تتابعت الضربات الموجعة من نقطة حرب الخليج وتصاعدت، بالتزامن مع أعمال إجرائية مكثّفة، كتنظيم احتجاج شعبي تزعّمه سلمان العودة في عام 1994، بعد عامين من «خطاب المطالب» المقدم إلى الملك فهد بن عبدالعزيز، في عام 1991، حول إصلاحات في النظم السعودية، تلا ذلك تصعيد، في عام 1993، كسر موانع السياسة السعودية بتأسيس كيانات سياسية بغطاء حقوقي. حينها، وجد التشفّي سبيلاً ليرسم أجمل لوحاته على ملامح الوهابية المستأنسة بمشهد اللهب الإخواني المتصاعد حول جليد الأسرة الحاكمة، حتى وصل إلى تابوهات المطالبة باستبدال الملكية المطلقة بملكية دستورية، في محاكاة لنظام الحكم البريطاني «الملك يسود ولا يحكم»، وفي لعبة توازن تستمد طاقتها من أشعة ذات الفتنة التي لا تغيب عنها الشمس.
الخلاصة وإن بدت عقيمة جداً جداً من منظور تحرير المصالح وتوزيعها بنسب متكافئة على طرفين متمسكين بعقيدة «الأنا أو الطوفان» حتى اللحظة، ذلك أنّها ولدت القناعة التامة بضرورة أن يزيح أحدهما الآخر، فلا التعالي على الجراح التاريخية حقق اندماجاً بنيوياً لطرفين يهدفان منفردين لزعامة «العالم السني» ومقدسات المسلمين، ولا المال والعطايا بمقدورها مخالفة ثوابت القرآن لتحقيق ألفة اعتباطية توازي ألفةً أرادها الله أن تكون.
إنها الأحداث والتحوّلات التي تعزّز هذه الفكرة، لا الاستنباط واعتساف الحقائق. فطرفا الصراع ترسّخ يقينهما بعدمية الشراكة، وحتمية القضاء على الآخر، اللتين تعزّزتا مع موجة «الربيع العربي» عام 2011، في ظلّ الدور الريادي للتنظيم الدولي لـ«الإخوان»، مسنوداً بأمجاد الدولة العثمانية في وجهها الإخواني الحديث، رجب طيب أردوغان، الأمر الذي كان كفيلاً بأن تقرع أجراس التاريخ طبلة الأذن المثقوبة للسعودية، وتلفت الأنظار إلى مشهد سقوط الدولة الأولى بإعدام قائدها على رؤوس الأشهاد في اسطنبول.
هذا الحدث الربيعي العاصف بالنسبة إلى السعودية، دفعها إلى بلسمة ثاراتها القديمة وجراحها النازفة، بإجهاض الربيع من المعقل الذي دفع فيه «الإخوان» نحو سبعة عقود قرباناً للوصول الخائب إلى الرئاسة المصرية.
لقد تمكّنت السعودية من الثأر المتكافئ مع مشهد سقوطها الأول. لكن خشيتها من ردة الفعل دفعتها لإغلاق الباب الموارب على هامش القضايا الفرعية في العمق المحلي، وردم جانب من مباعث القلق الدائم حول مستقبل الوجود بتصنيف «الإخوان» «جماعة إرهابية» في عام 2014، مع صناعة «بطل» واستعارة «بطولة» لمحمد بن سلمان، ليقود معركة شاملة ضد الجماعة «الأخطر من إيران»، كما قال وتوعّد بتدميرها إلى الأبد. فاعتقل رموز «الإخوان» الدعوية، والمشائخية، والمدنية، والسياسية، والإعلامية، في حين أنّ طابع النشاط السري للجماعة حافظ على سلامة كثير من القواعد في الداخل حتى اليوم.
حتى المكتبات العامة ومؤسّسات التعليم، التي ضمّت مؤلّفات البنا وسيّد قطب لعقود، خلت من حبر الأخونة، ولم يبقَ في رفوفها ومنصاتها، غير النهايات الحزينة على شاشة الجزيرة مدعومة بتضامن منظمات وإعلام الغرب، مقابل هيمنة الخطى السعودية المدعومة من حكومات الغرب.
وفجأة خرج التنظيم الدولي عن صمته الإعلامي، بعيد أربعة أعوام من اجتثاث فرعه السعودي وعام من مقاطعة قطر في عام 2017م وأرهبتها، ليقول أخيراً بوجه السعودية وبن سلمانها: «إن الدول تدق مسمار نعشها حين ترمي الناس بالباطل، وتقتل المدنيين، وتحاصر الأشقاء، وتتنازل عن القدس وتقوي العلاقات مع الصهاينة».
لم يكترث حينها بن سلمان لتهديد «المسمار»، أو يرف لعقيدة «الأنا أو الطوفان» له جفن واحد، فنحن على بعد 3 أعوام تقريباً، ولعل اغتيال الصحافي جمال خاشقجي، بعد 5 أشهر من تهديد المسمار، وتعمّد إذابته في مجاري الصرف الصحّي في تركيا، رمزية للنهاية التي وضعتها السعودية لـ«الإخوان».
في حين يرى البعض أنّ الصراع (من منظور إخواني) لم يبدأ بعد، ولن ينتهي إلا بإسقاطات الصورة المثالية للتاريخ العثماني على حاضر بن سلمان، استناداً إلى معطيات ماثلة، واتكاءً على مكتسبات التحالف التاريخي مع المملكة السعودية التي مكّنت الجماعة من النفوذ والقوة السياسية والعسكرية، والاقتصادية، حتى باتت اليوم قادرة على أن تكون فعلاً «مسماراً في نعش المملكة».
* صحافي يمني
نقلا عن جريدة الأخبار اللبنانية