الجديد برس : رأي
محمد عبدالقدوس الشرعي
عندما أود الكتابة عن أي موضوع فإني بفضل الله لا أجد صعوبة في كتابته وسرده ..لكني هذه المرة أجد نفسي عاجزاً عن التعبير.
كيف لا وأنا أريد أن أكتب عن الهامة التربوية والصحافية والأدبية والفكرية والسياسية الكبيرة والإستثنائية, أستاذي العظيم محمد يحيى المنصور الذي وافاة الأجل بعد صراعٍ مع مرض السرطان ,حيث كانت وفاته فاجعة لنا .
الشهيد المنصور .. نعم هو شهيد الحصار الظالم والقاسي الذي فرضته دول العدوان وأدى إلى منعه من السفر وتلقّي العلاج في الخارج, ولولا ذلك لكان اليوم بإذن الله ما يزال حاضراً بيننا .
وهاهو “المنصور” يغيب عنا فجأة ليضاف إلى ضحايا حرب الإجرام والطغيان التى غيّبت العديد من الأحبة والأصدقاء.
كم هي قاسية لحظات الوداع والفراق التي تُسجّل وتُختزن في القلب والذاكرة ، وكم نشعر بالحزن وفداحة الخسارة والفجيعة ، ونختنق بالدموع ، ونحن نودّع واحداً من جيل المربين والأساتذة العظماء أصحاب المبدأ الأوحد ، الناكرين للذات ، من ذلك الزمن الجميل البعيد ، أستاذنا جميعاً ، المربي المرحوم محمد يحيى المنصور ، الذي فارق الدنيا ، بعد مسيرة عطاءٍ وافرة ، ومشوار حياةٍ في السلك التعليمي والصحافي والسياسي والاجتماعي ، تاركاً سيرةً عطرة ، وذكرى طيّبة ، وروحاً متوقّدة ، وميراثاً من القِيم والمُثل النبيلة .
لن أتحدث عن نضاله وتاريخه المشرّف وحياته المليئة بالحب والإحترام والتقدير فقد كتب غيري عن تلك الجوانب المضيئة ,وقالوا عنه ما جادت به أقلامهم ,ويظل كل قولٍ فيه قليل .. لكن سأتحدث عن فترته الأخيرة مع المرض .
حين أصيب بالمرض وتم إسعافه إلى مستشفى العلوم والتكنلوجيا أول مرة, اتصل بي بعد عصر ذلك اليوم وقال لي: أنا مُتعب وسأذهب الآن إلى المستشفى .. وتحركتُ في تلك اللحظة إلى المشفى حيث قاموا بعملية شفط للسوائل منه وعاد إلى البيت .. وبعد يومين عاد إلى المستشفى وقرروا الرقود له عدة أيام .. وكنت أزوره يومياً حتى ظهرت النتائج بالمرض الخبيث .
زرته صباح ذلك اليوم ولم تكن قد ظهرت نتيجة الفحص الزراعي , ثم اتصل بي بعد الظهر قائلا: أريد أن تأتي إليّ , وذهبت إليه حيث أجلسني إلى جانبه بطرف السرير واعتدل في جلسته ثم أخبرني بتلقائية عادية جداً وبكل هدوء قال :
ظهرت النتائج وأنا مُصاب بالسرطان ..
تلقّيتُ الخبر بشعورٍ غريب ممزوج بالصدمة والقلق والخوف عليه .. ثم سألته :
والآن ما الذي يلزمني فعله ؟
قال : أريد أن أسافر إذا أمكن للخارج ..
أخذتُ نتيجة الفحوصات وأرسلتُها لعددٍ من الأخوة وأخبرتهم بضرورة سفره, وبالتالي عملوا على نقله مع طيران الأمم المتحدة لكن لم يتمكنوا من ذلك ..
بعدها سلّم الأمر لله وقال لي : سأستخدم الجُرَع في اليمن فأنا لستُ أغلى ممن ضحّوا ويضحّون بأنفسهم .. وبدأ باستخدام العلاج .
كنتُ أزوره وأجده صابراً محتسباً مسلّماً الأمر لله راضياً بما هو مكتوبٌ له , ومعنوياته لم تهتزّ أبداً بل كانت عاليةً تُعانق السحاب .
كان يتابعني يومياً يسألني عن سير العمل في وكالة سبأ .. يهتمّ بكل التفاصيل كما لو أنه في أتمّ الصحة ..واستمر كذلك طوال أشهر مرضه إلى قبل وفاته بيوم وهو على هذا المنوال .
كان يُذهلني بصموده ومعنوياته العالية جداً .. محمد المنصور بقي ذلك الرجل الإستثنائيّ اللطيف, لم يتغيّر أبداً , يضحك بتلك الروح الخفيفة والرائعة .
كان ذلك الفريد في تفكيره وأسلوبه ورؤيته وتقييمه وتعامله مع الأزمات في مختلف المراحل وأحلك الظروف .
ولأنه عزيز النفس, لم يرضَ له الله الرحيم أن يبقى ويعاني طويلاً من المرض حتى يقعده, بل أخذه إليه وهو ما يزال واقفاً على قدميه .
ذهب ليرتاح , وتركنا نواجه معترك الحياة بحلوها ومرّها , لتبقى ” سيرة أشيائه” ومسيرة عطاءاتهِ , ونُبل سريرته نبراساً يضيء لنا حُلكة الرزايا , ومفتاحاً للحكمة المُوصدة .
وتبقى الحقيقة الأليمة , أن رحيل الأستاذ المنصور خسارة فادحة جداً ,لا يمكن لأيّ شخصٍ آخر أن يسدّ فراغ غيابه عن الحضور الذي لا يملؤه سواه .
لروحه السلام .