الجديد برس : رأي
إسحاق المساوى
عندما سقطت منظومة حكم شبه الجزيرة العربية بفخ الكيان السعودي الطارئ، لم يكن المحك الحقيقي (بالحفاظ) على نوازع الثأر، بل (بالنهاية) التي أجبل البعض على بدايتها، وهادنها البعض الآخر، ليستفيق الجميع أخيراً على مشهد سقوط مدوي: “السعودية توالي اليهود”. وبمقاربة سياسية ألطف “تطبع مع اليهود”.
كارثة شبه الجزيرة العربية بمقاييس اللحظة والموضوع. ليست سوى أن زعاماتها على الأقل ساء تقديرها للفخ السعودي مع بدايات القرن الماضي، فساءت العاقبة اليوم بإعلانه “الولاء لليهود” على ما تحمل هذه الكارثة من عتبات مستقبل مجهول تبدد حياة “ومن يتولهم منكم فإنه منهم”.
بالقليل أو بالكثير من تناول الحدث وفقاً للمنظور الديني –كمرجعية -أو بتبيئته مع الأطر المفاهيمية المعاصرة، أو بتجريده كلياً عن أي أطر؛ فإن الاجماع العام لم يلغِ “العواقب الكارثة” تحت توصيف “التطبيع” أو “مولاة اليهود”. وليس ممكناً بمكان العصمة من ابتلاع البراكين القادمة، كل كيان، أو فرد، أو مجتمع، طبًع بالقول، أو بالصمت.
هذا ما تفصح عنه المقاومة المناهضة للتطبيع معززة بالثقافة القرآنية، التي تدعو شبة الجزيرة العربية، لمعرفة ما إذا كان التطبيع استثناء عن القاعدة، أم هو القاعدة، في ظل سعي يهودي متأصل منذ “اقرأ باسم ربك الذي خلق”. ولم يكن ليفلح حديثاً، لولا الانخراط مع الكيانات السياسية، والإسلامية الطارئتين، ومنحهما المناخ الجغرافي والديمغرافي الملائمين لأهداف “الحركة الصهيونية” ممثلة بفخ الكيان السعودي الذي نشأ غريباً، وسيدفن غريباً، في مقابر اليهود الغريبة، حيث لا جنازة، ولا مشيعون، غير العاقبة السيئة.
وبالتالي فإن المقاومة مع بروز “الإيمان كله مقابل الكفر كله” توصد تماماً أبواب الولوج إلى مبررات عدمية ترى التطبيع من خرم الباب رغم أن الباب مفتوح على مصراعيه.
ذلك أن مقتضى الهموم المرحلية، والاستدراكات الأولية والطارئة، تقتضي الخروج الفوري من فخ الانتماء للكيان السعودي الطارئ؛ تفادياً لعواقب النفير الإسلامي القادم لحماية المقدسات، بشرعية تتجاوز القوانين الوضعية، وضوابط الحدود المصطنعة. فضلاً عن كون خروجهم بمثابة تجديد العهد لمنطلق البيئة المحمدية، خطاً، ورسالةً، وقضية.
من جهة أخرى لدوافع الخروج، ومن منظور براجماتي أعرابي صرف، قد يبدو الوقوف على المكتسبات التي تحصلتها قبائل شبه الجزيرة، مقابل الخضوع للفخ، لا تتجاوز الرقم “صفر” علاوة على أن الشيء الثابت في ذات الفخ “عدم اليقين”. فلماذا المغامرة بالإيمان إذاً، طالما أن المغامرة بسلطة قبيلة أو إمارة لم تفلح حتى اليوم؟
إن قضية شبه الجزيرة العربية (المحيط السعودي تحديداً) لا تجعل كارثة التطبيع وحدها، دافعاً للخروج من الفخ؛ فكوارث التاريخ الجغرافي، والمذهبي، والسياسي، والعسكري، تحضر بقوة، وخضوعها علناً لمقود التهويد، بمثابة النقطة التي أفاضت كأس الدوافع المنطقية، للخروج، أو الخروج، أو الخروج، من الفخ.
إذ يشكل هنا الجنوب الغربي لشبه الجزيرة العربية، مثالاً متكامل الكوارث، حتى بات من الصعب بمقاييس الأمس واليوم، القول باستدامته آمناً في فخ الانتماء الراهن، لعديد من الدوافع، التي يبدو في سردها، تتطابقٌ في البعض، أو الكل، مع كوارث المناطق الأخرى الواقعة في الفخ:
من بينها أن الكيان السعودي الأول، يتوارث أحقاده على الجنوب الغربي، لأنه لم يتمكن من نسيان عضلاته حين اختبأت خلف جلابيب النساء، من جيش قبيلة يام، وقد كاد يدخل عاصمة إمارة الكيان فاتحاً في ذروة مجدها، وشوكتها التي لم بكسرها أحد غير الياميين، رداً على محاولة الاقتراب من نجران، ونصرة لقبائل استباح أعراضها وانسانيتها، جيش المؤسس الأول محمد بن سعود عام 1763م.
وبالتالي أسست معركة محمد بن سعود مبدأ “بقاؤنا بزوالهم” فتوارث أحقاده السلالة كخارطة طريق إلى الجنوب الغربي الذي ظل عصياً لقرنين، حتى سقط أخيراً بفخ الكيان السعودي الثالث، على يد المؤسس عبد العزيز آل سعود في 1934م.
قبل ذلك شكلت هذه المعركة (استباقاً) للعدوان المبيت الذي كانت تعد له الوهابية، بدلائل قول إمامها قبل قرنين ونصف: “نحن لا نحب حربهم اليوم فهؤلاء طائفة كبيرة، بداة وحضراً، تسكن اليمن من بلاد نجران”. وبالمثل أعطى محمد بن عبد الوهاب للمعركة المؤجلة حينها بعداً طائفياً، عزز البعد الجغرافي لسلالة الكيان السعودي، وأكسبتهما الحرب العالمية الأولى بعداً ثالثاً للهيمنة البحرية على كافة الجنوب الغربي.
هذه العوامل التاريخية مجتمعة، لا تشي باندماج بنيوي قائم على الوحدة وتلاحم الأهداف في إطار مشروع جامع، عدا عن خليط من الأحقاد السلالية، والأنياب الطائفية، والأطماع الدولية، كان الجنوب الغربي هدفها المقصود، وساحة صراعها المنشودة. ما يجعل الحفاظ على الانتماء الراهن فخاً إضافياً، والاستمرار فيه شلال دم.
بالطبع.. لا يبدو المشهد الدموي هذا، تنبؤات فلكية على غرار ماجي فرح؛ فواقع الممارسات الموثقة للعبث الممتد بلا ملل، يحكي بالنيابة عن الجنوب الغربي لشبه الجزيرة، وقد حوله الكيان السعودي إلى حقل تجارب لاستراتيجيات التدمير الممنهجة، كمقاربة لفعل الصهيونية العالمية التي تريد للأمة أن تبقى مقسمةً حتى تضمن لنفسها البقاء.
فلماذا الاستمرار بالفخ إذاً؟ وما هي الامتيازات؟ طالما أن مائة عام من الزمن استكثرت على الجنوب الغربي عامة حق الانتماء للفخ. وحكمت على نجران خاصة بـــ “الكفر”. كما أن مساجدها موصوفة بـ “بالمعابد” على رأي السلالة السعودية. ومجتمعها “قوم فساد وشقاق” وفقاً لقائد جيش للدرعية. وأرضها مستباحة للوافدين كنهج راسخ للتغيير الديمغرافي. وعرضها مصاب بأعيرة الشرف على ذمة الاحتلال العثماني. ووظيفتها طرد منها إلى شتات الاغتراب والهجرة، وداس على حرمة مقدساتها الوافد الطارئ بدعوات رسمية، حتى بات تساؤل الأطفال “لمن ننتمي” يحفر أخدوداً من الخوف، وخجلاً لا تنتهِ أسبابه!
إن الجواب الشجاع على هذا التساؤل، قد يضئ جانباً من عتمة الفخ، ويبقي الجانب الآخر غارقاً في عتمته إلى أن يدرك الجميع، لماذا تبدو نجران استثناء في تدمير الهوية المذهبية دوناً عن غيرها من المناطق الجنوبية، كجيزان مثلاً، التي ينتمي أغلب سكانها إلى المذهب المالكي؟
بصورة أقرب، وأوثق اتصالاً بحواجز الصد الموضوعية لدى مؤامرة الفخ، فقد كانت اليمن في استشرافاهم المستقبلي، الخطر الداهم على مسلسل مؤامرتهم، خصوصاً مع ازاحة الستار عن آخر حلقاته المعلنة بتطبيع الكيان “السعودي”. وبالتالي فإن الرؤية اليمنية اليوم، تتجاوز الاستحقاق التاريخي في نجران، إلى كونها البوابة البرية الأطول لتدفق قواتها باتجاه تحرير المقدسات الواقعة تحت سطوة الكيانين.
ما يجعل دوافع الخروج من الفخ حتميةً، والمواقف الرمادية بشأنه، لاغيةً. ومفاضلة الخدمات العامة على الانخراط في مشروع الأمة لتحرير مقدساتها، عصياناً. والحرص على (إنارة أو منشأة) سطحيةً، قبل أن تكون جهلاً باستحالة ديمومتها في ظل متغيرات رؤية الكيان السعودي للجنوب الغربي، ومع إطلالة المعارك من سفوح الجبال، وشراكة البوارج الغربية في إذكاء فتيلها من مياه البحر الأحمر.
وبالإمعان في متغيرات الرؤية؛ فقد وجد الكيان السعودي أنه أخطأ حين أبقى هامشاً للهوية المذهبية والثقافية الأصيلة في الجنوب الغربي بعد اكتمال السيطرة عليه عام 1934م، كون هذا الهامش في نظره، أبقى على نقطة اتصال غير مرئية مع اليمن، أعادت جانباً من اللحمة التاريخية. وهذا سببٌ كافيٌ لنجدنة ثقافة الجنوب الغربي بصورة شاملة، ووهبنتها إلى الحد الذي تعجز معه الاسماعيلية في الحفاظ على أطلال مسجد واحد، وليس ببعيد مع حدث التطبيع عودة يهود نجران، وتوطينهم، بدلاً عن المهجرين الإسماعيليين في قادم الأيام. فهل من الذكاء انتظار الكارثة، أم تداركها بالخروج من الفخ؟
تتجلى هذ التوقعات من مطالبات يهود استوطنوا قديماً العودة إلى نجران، وتمنحها مطالبة الكيان السعودي اليوم بمنطقة عازلة مقابل وقف الحرب على اليمن؛ عودة اضطرارية لمعاهدة 1926م مع الأدارسة، واتفاقية ترسيم الحدود عام 2000م كحدثين بارزين خسر على إثرهما مجتمع الجنوب الغربي وتحديداً نجران، الحرية في الفخ، وسيخسرون -مع استمرارهم –الحياة فيه.
بالنسبة لليمن فإن الموافقة على المنطقة العازلة، لا تمثل إشكالية عدا عن كون مشروعها الجامع يحتم عليها تحمل عناء المعركة في عمقها حتى لا يصاب عمق آخر بأذى، وقيادتها نيابة عن الأمة بتعدد توجهاتها الفكرية والإنسانية والأخلاقية، وبصورة أشمل من منطق: “لو أن ناقة في العراق تعثرت”.
إلى ذلك، لن يبدو منطق المساومة بإعلان الخروج من الفخ، مقابل امتيازات من أي نوع في المستقبل، ناجحاً، مالم يكن الموقف ذاته هو الامتياز المنشود، والإضافة القيمية التي لا تعني أحداً غير أصحابها، ولن تغير شيئاً من معادلة المقاومة المناهضة للتطبيع، بقيادة الجوار الجنوبي اليمن الذي يتساءل بحسرة: هل يتوقع البعض أن تحرير المقدسات قد يخضع مبدئياً لتفاهمات ضيقة مع مطبع ومهادن ومحايد؟
بالتأكيد، لا، وبالتأكيد أيضاً، أن على قبائل الجزيرة التي تشعر بكارثة الفخ؛ الخروج أولاً من عمقه المخزي بماضيه، والمخيف باستحقاقاته التطبيعية القادمة، ثم لا بأس بعدها من البحث في تظلمات لا تقدم العربة على الحصان.
وبالأخير، فإن الوثوب على قدم واحدة في حائط تطبيعي زلج، أمرٌ صعب. والخطوة إلى الأمام من خلاله تصل إلى حائط المبكى. والبحث عن مخرج من إحدى جانبيه، كالبحث عن إبرة في كومة قش. ولا نجاة من الفخ بكل مخاوفه وتطبيعه، إلا بالعودة إلى الهوية الايمانية أولاً وعاشراً.