الجديد برس
بقلم/ حمود عبدالله الأهنومي
نزلت الأنباء الإلهية لتخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بنتائج معركة مؤتة، والتي تحرك فيها جيش المسلمين قليل العدد والعدة ليخترق مسافات شاسعة من الأراضي العربية الخاضعة للإمبراطورية البيزنطية متحديا بذلك أقوى الجيوش العالمية آنذاك، وأخيرا قابل بضعة آلاف من جيش المسلمين ذلك الجيش المكوّن من مئات الآلاف في مؤتة فأثخن المسلمون في عدوهم قتلا، وأثبتوا لهم أنهم قوم لا يرهبون الموت، وأن جيشا بهذا العدد القليل يتحدى جيشا بتلك القوة والكثافة لجدير بأن ينبت في قلوب الرومان الخوف والهلع والقلق إلى آخر الدهر.
استشهد في هذه المعركة الفاصلة والاستراتيجية عددٌ من قادة المسلمين، ومنهم جعفر بن أبي طالب، فبادر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لإخبارهم، ومشاطرتهم مصابهم، انطلق الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ليعلم أمته سنة مأثورة عليهم أن يسلكوها وهم يتحركون صوب العلياء من المجد، والذروة من العزة في طريق الجهاد ومقاومة المستبدين في الأرض.
قال صلى الله عليه وآله وسلم لزوج جعفر، أسماء بنت عميس: “لا تقولي هجرا، ولا تضربي خدا”، ثم أعلن بأهمية أن يخلَفَ جعفر في أهله، وبسط كف الضراعة نحو الله قائلا: “اللهم واخلفه في ذريته بأحسن ما خلفت أحدا من عبادك في ذريته”، وطلب من المسلمين أن يصنعوا طعاما لآل جعفر، إذ أنهم مشغولون بصاحبهم. هذا وغيره من الحوادث والنصوص الإسلامية في التكافل والرعاية الاجتماعية تشير بوضوح إلى أن مسؤولية المسلمين تجاه شهدائهم أمر مهم في الإسلام، وباب عظيم في دار التكليف، فهناك وجوب إعالة ذوي الشهداء، وتيسير أسباب العيش لهم، ومشاركتهم مصابهم الجلل، وبلغة اليوم يجب على الدولة وعلى المجتمع أن يخلفوا الشهيد في أهله وأيتامه بأحسن الخلافة، وأن يطعموهم، ويسقوهم، ويربوهم التربية الحسنة، ويخففوا عنهم لوعة فراق عائلهم ووالدهم، وهذا أحد حقوق الشهيد على أمته التي تنازل هو أصلا لها عن حياته الشخصية من أجل أن تنتصب حياة أمته العامة على أرضية السعادة والعزة والكرامة المسقاة بدماء الشهداء الأبطال.
إن إعالة أسر الشهداء، ورعايتهم، وتعليمهم، وتربيتهم، والأخذ بأيديهم نحو الحياة السعيدة والعزيزة والكريمة، والتي سعى الشهيد لكي يرسي معالمها في هذه الأمة أو ذاك المجتمع – لهو أقل واجب يجب أن تقوم به الدولة، ويضطلع بأمره المجتمع، وفي ذلك تحقيق بعض الأهداف التي سعى الشهيد لتحقيقها.
أسقط الشهيد حقه في الحياة عن وعي ومعرفة بأهمية هذه اللحظة الفارقة في حياته، ليس لأنه يكره الحياة، أو لأنه يعيش أزمة نفسية، ولكن لأنه إنسان حر كريم سوي تحلق روحه في سماء الفضيلة، وتعي موجبات التضحية وفضيلة العطاء بالنفس، والمال، أسقط عن نفسه ذلك الحق في الحياة لكي يخلق لمجتمعه حياة أفضل، وعيشا أرغد، وما أروع أن يبادل هذا المجتمع ذلك الشهيد الوفاء بالوفاء، وأن يتحرك بجد لكي يسعد أهله بتلك الحياة التي سعى إليها بدمه، مع أن الشهيد لم يتحرك تحركه الجهادي لكي يقايض المجتمع بهذا الواجب؛ إذ كان تحركه بمقتضى الواجب والمسؤولية في تلك اللحظة، ولكن تلك المسؤولية على المجتمع نشأت بمجرد غياب الشهيد عن ساحة المجتمع، وهي مسؤولية تنشأ لأي أسرة غاب عائلها حتى ولو لم يكن شهيدا، أما إذا كان شهيدا فالواجب أوجب، واللازم ألزم، والوفاء صفة الكرام، وشيمة كريمة في دين الإسلام. هناك من الشهداء من عثر المجتمع على وصاياهم الخالدة، وإذا بهم قد استشهدوا وعليهم مبالغ زهيدة من المال دَينا لآخرين، وهو أمر وإن كان يُثبِت مبلغ تقوى هؤلاء الفتية الأكرمين، وصدق مسيرتهم مع الله رب العالمين، وخوفهم من حقوق الناس عليهم حينما يُسْأَلون يوم الدين؛ إلا أنه يشير أيضا إلى أن على المجتمع أن يقضي ديون هؤلاء العظماء، وأن يسعى في تخليص ذممهم مما عليهم، سواء بالإبراء والمسامحة، أو بالقضاء والإيفاء.
وما أجمل أن يحتفي الأحياء في هذه الدنيا القصيرة بالأحياء الخالدين عند الله في تلك الحياة السرمدية، ما أجمل أن تزين روضاتهم التي يرقدون فيها معزَّزين مكرَّمين، يعظمهم الناس لعظم قضيتهم، وسمو نفوسهم، وقدسية حركتهم، التي طهرت عن شوائب حب الدنيا وعلائقها، ففي الاهتمام بالشهداء اهتمام بقضيتهم، وعلو بها، وارتقاء بها في سِلَّم وعي المجتمع والأجيال، إن تعظيم الشهداء تعظيم لقضاياهم التي استشهدوا من أجلها، وحين يؤدي المجتمع أو الدولة هذا الواجب فإنما يحيي درسا عمليا للشهيد في الأجيال، ويشيد مدرسة فاعلة سيتخرج منها الكثير من الأبطال، ويشير ببنان التكريم والإجلال والتعظيم إلى هذه الفئة المقدسة من بني البشر؛ الأمر الذي يعود بالتربية الحسنة والنموذج الفاضل على المجتمع، لكي يسير على هدي العظماء، ويتحرك في مواكب العطاء.
إذا أردنا مجتمعا عظيما فعلينا توجيهه إلى العظماء ليستقي من موردهم، وينهل من دروسهم، وينال من بركاتهم، والشهداء هم أعظم الناس عند الله وعند الخلق، بجوار من أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والصالحين، وحسن أولئك رفيقا، إنهم الأحياء الخالدون، الذين تجري عليهم الأرزاق، وتفرح فيهم القلوب، إنهم يستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وهذا يشير إلى استشعار الشهيد واستبشاره بمن خلفه من الذين سيتأثرون به، وينطلقون في أثره، وهي فائدة تربوية ما أسعد المجتمع إذا ما أخذ بها، فأحسن الاهتمام بشهدائه وعظمائه.
ومن التعظيم لهم أن تتحرك قوافل الزيارات إليهم لتعيش مع تضحياتهم دائما، ولتخصيب ذاكرة المجتمع بعطائهم ونموذجيتهم وسموهم وكبير تحركهم. وإنه لشرف عظيم أن يتم تخصيص يوم أو أيام للنظر في قضاياهم، وفي شؤونهم، وفي الاحتفاء بهم، وتوجيه المجتمع واهتماماته نحوهم ونحو عطائهم وأسرهم والوفاء لهم. ومن الواجبات الهامة التي يجب أن نسعى فيها هو أنه يجب حفظ منجزاتهم وانتصاراتهم، والبناء على ذلك، فإن التنازل عن منجزاتهم التي حققوها يعتبر ضربا من اللعب العابث بالإنجازات العظيمة، والتي قد توحي بأن تحركهم الاستشهادي كان عابثا أيضا، وهو ما يعود بالضرر على نتائج تحركهم الجهادي ومنجزاتهم الميدانية. إنه النكوص والردة على الأدبار القهقرى التي حذر الإسلام منها.
إن من أهم الواجبات على المجتمع وعلى الحركة الجهادية تجاه الشهداء أن يكملوا مسيرتهم، ويسعوا إلى تحقيق الأهداف التي علت أرواحهم إلى الله من أجلها، فالتقاعس عن هذه الفريضة هو نوع من الارتكاس والنكوص والفرار من الزحف إلى الفضيلة، فالشهيد الذي غادر الحياة وهو يقارع الظالمين، لا يجوز بحال من الأحوال أن يترك المجاهدون ذلك الظالم سادرا في غيه بدون السعي إلى إتمام الفريضة وإكمال الحجة، وحين يسقط الشهيد بين يدي الله وهو يقارع طاغوتا فإنه من الغدر والخيانة أن يهادن المجاهدون ذلك الطاغوت ويركنوا إلى ذلك العدوان. وهناك واجبات كثيرة يجب أن يتحرك فيها المجتمع والدولة لكي يقوموا بما عليهم من حقوق تجاه أهم فئة يمنية مؤمنة مخلصة أخلصت لله ربها، وتحركت في سبيله صادقة،… وفي هذا ما يحفظ دماءهم، ويكسب المجتمع صفة الأمانة والوفاء والثبات لشهدائه الأبرار.
إن الوفاء من صميم الدين الإسلامي، ومن أفضل أخلاق الفطرة الإنسانية السوية، والوفاء مع أهل الوفاء لهو أوجب الواجبات وأفضل المقربات إلى الله رب العالمين، من بيده ملكوت السماوات والأرض، وله الأمر، ويعود إليه الخلق طرا أجمعين، ليجزي أهل الوفاء وفاء، ويذوق أهل الخيانة ما يليق بغدراتهم وقلة وفائهم، وبعين الله كل ما يكون.